لا يزال صوت أحمد اليماني، الموزع للصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، يتردد على مسامعنا يوم أن كان يجوب بعض طرقات الديرة، شارع الوزير والثميري قادما من إحدى المكتبات القريبة، وقد جمع منها قرابة 30 عددا، وربط على وسطه حزاما شده على ظهره من الخلف، وأداره على بطنه من الأمام، تاركا له فسحة ومتسعا تستند عليه تلك الأعداد بين صدره ويديه، وهو ينادي من يسمعه ممن يريدون الاطلاع على الثقافة اليومية والخبر والمعلومة والمقالة، مرددا أسماء الصحف والمجلات، حتى لو أن بعضها نفد، ولم يعد معه شيء منها، ومع ذلك لا يغير من عبارته تلك «صحف مجلات، صحف مجلات، الرياض الجزيرة المدينة اليمامة العربي النهضة». وأسعارها في ذلك الوقت، الذي تسوق فيه عبر المسيرة الراجلة، كانت زهيدة، والإقبال عليها كان أكبر مما هو متوقع، خاصة من الشباب الذين يتابعون موضوعات تهمهم يومية أو أسبوعية. وهناك اشتراك في المكتبات نفسها، كان المشترك يحجز نسخته فيتسلمها متى ما مر على المكتبة في أي ساعة من النهار، ولم تكن الجريدة ولا المجلة توزع على المنازل، ولكن البقالات تعرض تلك الثقافة أمام الباب فوق حامل خاص بالصحف، وكان المتطفلون على الثقافة، ممن يريدون معرفة الأخبار بالمجان، يقفون بأبواب البقالات، يتصفحون المجلة أو الصحيفة كلها ورقة ورقة، ثم يضعونها في مكانها، ويتناولون أخرى، وهكذا. وقد يخجل صاحب المحل من إبداء تذمره من فعلهم، ولكن لسان حاله وقسمات وجهه تبدي تذمره. بدايات كانت فيها الصحف والمجلات مكسبها الحقيقي هو الريادة، والدخول في ميدان التثقيف للمجتمع بوسيلة تعد في وقتها من أحدث مستجدات الوسائل، وثمرة من ثمرات العلم والتعلم، وكان لا ينضم إليها إلا المثقفون الذين يملكون الوعي والقدرة على توجيه الرأي العام وتقديم الجديد المفيد. هؤلاء الذين بنوا تلك الصروح الإعلامية الثقافية، ليس المكسب المادي همهم بالدرجة الأولى، وإن كان الربح دافعا يعينهم على الاستمرار، إلا أن مجال الثقافة والإعلام مجال له نكهته الخاصة عند من التحق به وعمل فيه. إن الذين يهتمون اليوم بكل ما نُشر سابقا، ويقومون بمتابعة ورصد الماضي، إنما تشدهم لذلك عذوبة بدايات العمل الثقافي والإعلامي، فرغم بساطته إلا أنه كان له أثر كبير في نشر الوعي وتوجيه الرأي العام. نحن اليوم في مرحلة قد يخيل للبعض أننا تجاوزنا، أو يفترض أن نتجاوز تلك التي مرت في البدايات، ولكن الحقيقة أننا مهما بلغنا من المضي قدما، فعلينا أن نحافظ على صيغة تلك البدايات البسيطة كما هي، وأعني بها ذلك المتعهد بالنشر والتوزيع، وذلك المتجول الذي تقوده الحماسة، فليس بالضرورة الاستمرارية في تكاليف التوزيع العام لكل الأطراف والأصقاع بعد أن أعفتنا التقنية من ذلك وأوصلت العدد لكل يد، ولكن من الضروري أن نوجِد طريقة توزيع لا تكلف شيئا، وفي الوقت نفسه تحافظ على ذلك الإرث القديم من النشر والتوزيع وتاريخه، خاصة أن الصحف اليوم والمجلات توجد على مواقع إلكترونية، يمكن تفعيلها أكثر وأكثر من حيث سرعة إيراد الخبر وتحليله ونشر التغطيات وتبادل الآراء والمقترحات بشكل يحقق للمتلقي كل طموحاته. Your browser does not support the video tag.