ماذا لو كنت الكائن الوحيد في كوكب صغير؟ وكان لديك فقط ثلاثة براكين، وزهرة؟ ماذا لو رسمت خروفاً في صندوق، وحين تفتحه يخرج الخروف حياً مكتملاً ويأكل الزهرة؟ ماذا لو كانت لك طائرة تسافر بها من كوكب إلى كوكب، وتكتشف أنك لست الوحيد في هذا الكون الشاسع، وأن مبادئك التي تؤمن بها لا يؤمن بها الآخرون.. وأنّه من الصعب جداً على قلة من تتعرف عليهم أن تُكوِّن صداقات. ماذا لو اكتشفت أن الصداقة نوع من التدجين، إذ يمكنك أن تصادق ثعلباً إذا دجنته، وأن محيطك كإنسان تملؤه الدواجن المحبوبة لديك، أمّا الكائنات المتوحشة فلا يمكنك مصادقتها، لأنها غير مدجنة! كل هذا الكلام يبدو نوعاً من الخرافة، ولكنَّه في الحقيقة كلام عميق، له أبعاد كبيرة، ويمكننا التلفُّظُ به دون تجريح للآخر، إذ يبدو أن انتقاء الكلمات أهم تقنية يجب تعلمها لصياغة كلامنا وإيصاله دون إثارة حساسية المتلقي. وهذه هي الأسرار التي وضعها الكاتب الفرنسي أنطوان دوسانت إكزيبيري في كتابه الشهير «الأمير الصغير» الذي لم يكن موجهاً للأطفال بقدر ما وُجِّه للكبار بغطاء عجيب غش به قارئه. الكاتب الذي عاش طياراً خلال الحرب، وقام بتحقيقات عالمية مصورة، صقل كتاباته بخبرته الواسعة، وبفكره الذي تجاوز الوعي العام آنذاك، كتب بأسلوب غريب ظن الأغلبية أنه أسلوب خاص بالأطفال، ولكنّه في الحقيقة كتب الثوابت بلغة الكبار والمتغيرات بلغة الأطفال. يخبرنا أنطوان دوسانت إكزوبيري عن الغرور، والوهم، والتمادي، والظلم، والعدالة، والمحبة والصداقة، والوحدة.. وأشياء أخرى تزخر بها النفس البشرية، مثل تربة خصبة فيها الضار والجيد من الأعشاب، إن أهملناها ولم نعمل على تنظيفها من كل عشبة ضارة فستضعف الشجيرات الجيدة ولن نحصل على ثمار. نتعلم الحكمة من الرسائل المشفرة في القصة التي أصبح عمرها اليوم خمساً وسبعين عاماً، حين يهمس لنا بلغة بسيطة وجميلة أننا «لا نبصر جيداً إلاّ بالقلب» لأن الشيء المهم لا تبصره العين! هل يمكن للطفل أن يدرك معنى هذه العبارة العظيمة؟ بالطبع نعم، فالأطفال لا يرون الأشياء كما يراها الرّاشدون، وحتى أخطاء الأطفال أقل خطراً من أخطاء الراشدين، أخطاء صغيرة لا معنى لها، ولا تستحق العقاب الذي ينزل عادة بهم. هل عوقبت بقسوة لأنك كسرت صحناً؟ نعم حدث ذلك، هل الصحن أهم بالنسبة لأمك أكثر منك؟ بالطبع لا، إذاً لماذا عوقبت؟ ستجيب حتى لا أكسر مزيداً من الصحون، مع أن العقاب كسر قلبك، وهذا أول درس أعطته لك أمك دون أن تنتبه لئلاّ تكسر الصحون، وأشياء البيت، لكن لا بأس أن تكسر قلباً! Your browser does not support the video tag.