كنا قد امضينا امسية الجمعة في حضور الحفل الخاص لافتتاح مؤسسة ارنالدو بومودورو للمنحوتات (Arnaldo Pomodoro Foundation)، الفنان الإيطالي الشهير الذي لو جربت البحث في سيرته على شبكة المعلومات لأثقلتك الصفحات بلا آخر، حياة غنية لنحات ولد عام 1926 في مورسيانو رومانا بإيطاليا، ودرس فنون التصميم المسرحي، قضى جزءًا من حياته في صيانة وإعادة احياء المباني العامة الأثرية في بيسارو. وتنقل بمنحوتاته ومعارضه الفنية بين اوروبا والأمريكيتين، والتقى بمشاهير النحاتين مثل جياكوميتي وجورج ماثيو وفونتانا وسيرجيو دانيلو وأنريكو باج، ونجحت اعماله في حصد جوائز النحت الدولية، وتصدرت البيناليهات مثل بينالي فينسيا، وظهرت في ساحات المباني الدولية مثل الأممالمتحدة. وكان من اوائل من نظموا لمعارض النحت في الهواء الطلق بميلان. نجد اثنين من اهم منحوتاته معروضة في الهواء الطلق على كورنيش مدينة جدة: المكعب، وعمود اسطواني بعنوان (سارية الرحالة) من قصاصات وخردة المعدن، حيث نجح عمدة المدينة السابق محمد سعيد فارسي في استقطاب اهم اعمال النحت العالمية مثل منحوتات ميرو ولافونتي وجيوفاني لبشيتز وفازاريللي وهولمن وهنري مور وسيزار وعارف الريس وغيرهم، وعرضها في ميادين جدة لتصبح عروس البحر اهم متحف مفتوح في المنطقة. وشاء بومودورو ان يتوج مسيرته بالاحتفاء بالفن الذي كرس له حياته، وبجمع نتائج قريحة النحاتين الإيطاليين في مؤسسة من تأسيسه وبجهوده الخاصة. ونظراً لصعوبة العثور على مساحات شاسعة ضرورية لعرض المنحوتات بقلب مدينة ميلان، فقد اختار لمؤسسته هذا المبني الفريد بالمنطقة الصناعية (كوينتو دو ستامبي)، الذي كان اصلاً لشركة تصنيع كابلات المياه اغلقت من زمن، وقام بومودورو بشراء المبنى المهمل وتحويله لمؤسسة بدعم من عدد من الشركات ورجال الأعمال المهتمين بالفن، ونجح في اخراج المبنى من صورته المهملة ليصير من اجمل متاحف العرض، تجتمع فيه اعمال اهم النحاتين الإيطاليين القدامى والمحدثين، كما يضم في ارشيفه مجموعة نادرة من صور أولئك النحاتين الفوتوغرافية. كان الافتتاح الأول يوم الأربعاء 21 سبتمبر 2005 للصحافيين، تلاه افتتاح خاص دعي اليه اصحاب دور العرض الفنية والوسط الفني، اما يوم الجمعة فمخصص لكبار المقتنين للفن والشخصيات الراعية للفنون من ايطاليا ومختلف دول العالم، الذين لم نكن احداً منهم. على الباب حراس في زي مهيب يتفحصون بطاقات الدعوة بصرامة، ولا يسمحون الا بعبور المعنيين للواجهة التي تقنع الواجهة القديمة للمصنع، في الداخل وقبل ان يتناولوا معطفك يخطفك التحول الذي طرأ على المبنى، تستقبلك على الجوانب الأعمدة المدورة التي احتفظوا بها من المبنى القديم لتطوف حول المساحة المركزية الشاسعة. بومودورو يقف في بذلته البيضاء محوطاً بالمهنئين، رجل مربع بشعر ابيض ومبهور بما حوله. مثل حلم تطوف حولك الروافد المتراكبة من مثلثات بلا عدد والحاملة للمنصات والجسور والأسقف مغطاة بالخشب والزجاج، الجدران مطلية بالأبيض الذي يبسط المساحة بلا آخر، تجيء خطواتك مبطنة على الأرضيات المغطاة بالكونكريت المعالج. اما الحاويات الخشبية فتركت طبيعية بينما دهن بعض الأعمدة المعدنية بالأبيض، لعبة الحديد والأبيض ينساق لها بصرك فتشعر انك في سهل مفتوح مزروع بالأنصاب. التصميم يهتم لتبدلات الإيقاع البصري اللانهائية والتي يمكن احداثها داخل مساحات فارغة، بهدف التخلص من الإيحاءات الرسمية الجامدة. وتساهم في تأليف المكان السلالم المزدوجة والتي تحمل بشراً كالنمل تتصاعد عن اليمين واليسار، لتلمح صديقاً لا تفصلكما الا عارضة او منصة تعلقه في الهواء فلا تنجح في مصافحته الا بعد متاهة، تنفرد وجهاً لوجه مع دقة الحلم البشري. في ركن لأقصى اليمين قام بومودورو بتصميم مسرح صغير مثل نفق ينفتح بأرضية الطابق الأرضي للأسفل، ويهبط بدرجات كالمسارح الرومانية لينتهي بخشبة العرض التي يتصدرها باب ضخم من البرونز المحفور من تصميمه، تشعر لكأنك تهبط لمذبح اسطوري يجذبك العمل الفني الصامت بتأملك، يحذرك المتاهة التي يزمع الفنان اقامتها وراء ذلك الباب. ونتساءل: «لم المتاهة؟» ولا إجابة، يتركون لك التخمين. «ربما، المتاهة بصفتها التلخيص للشغف المحير الذي يقود المخيلة البشرية لاكتشاف خباياها وطاقاتها». هبطنا مع مدير اكاديمية الفنون بتورينو المدرجات الحجرية وتسمرت اقدامنا في منتصفها، لمعت اضواء فلاشات، هناك من قام بالتقاط حيرتنا في صورة. وفوق رأسك تتفرع مستويات المتحف، في ثلاث منصات ضخمة قابلة للانتقال وتبديل ارتفاعاتها، كل ما في الطوابق العليا قابل للحركة والتحول وتحويل موقعك منها، حتى لتشعر انك مشمول بسماء لا تستقر على حال متقلقلة بنشوة تلك الأعمال المخترعة، والتي تفضح خلاصة الإبداع البشري، بينما الضوء يأتي محتلاً من الأعلى او من السقف المفتوح على السماء المشعة بحنين الغروب الآن. في مرحلة بدأ عزف بدائي بمقارع على ألواح حجر ضخمة معلقة في الهواء يمين المسرح، وتناقلته شاشات العرض التليفزيونية ليحاصرك كما في معبد مما قبل التاريخ، طرق موقع تفصله مساحات من الصدى تلاحقها مساحات من الصمت، ينشد فيها جسد العازف في زيه البدائي الأقرب لفوطة تترك الجزء الأعلى من جسده مكشوفاً مرقطاً بالعرق (سأحاول ان افرد مقالة خاصة لهذا الفن). ولقد قام بومودورو بالإهداء من اعماله للمؤسسة، ولم يرغب بعرض اعماله واكتفى بباب المسرح والكرة المسماة (sphere) وهي من البرونز، لأن الغرض من قيام المؤسسة ليس عرض اعماله على اهميتها وغزارتها وإنما جاءت المؤسسة كاحتفالية بالنحت الإيطالي عموماً. تتجول بلا نهاية في مساحة مسروقة من قلب ميلان تطفو في سماواتها المنحوتات، وتفاجئك قواطع وسواتر من الأعمال الكبيرة التي شكلت نقاط تحول في النحت الإيطالي، تشعرك انك تتجول داخل المخيلة البشرية في عصور هذيانها وتجليها، تتلبسك شحنة فريدة من الحيوية تدفعك للامساك بأقرب ورقة او معدن لتحويلها لرسالة فنية. لقد نجح الفنان في استثمار الطاقات لبناء هذه المؤسسة التي تحوي مكتبة توثيقية لكافة تلك الأعمال. سرقنا الوقت وفاتنا موعد العشاء، ولم يبق الا مرافقة باولا لمحطة القطار، التي انفتحت مثل غمامة من قصور الف ليلة وليلة تسد الأفق، من افخم محطات قطار عواصم العالم: «من عهد موسوليني..» علقت صديقة. «تقام هنا عروض ازياء ايضاً». واستقبلنا المبنى بدرجاته العريضة الملكية وأقواسه وسلالمه بلا عدد.. كلها تقود لحيث الشاشات الإليكترونية تعلن تأخر القطارات الذاهبة لتورينو دوماً.. ودقة القطارات المتجهة للعواصم الأوروبية المحيطة. (تحويل المباني الصناعية الى متاحف وتحويل المباني العريقة الى محطات صناعية) معادلة تفقدك التوازن، اتساءل: كم من المباني بوسعنا توظيفه في بلادنا كدور للفن؟ تعاودني هنا صورة (الهناجر) في القاهرة الذي تحول لمساحة راقية للمسرح التجريبي والعروض الفنية المختلفة وصار تجمعاً لشريحة من المثقفين والشباب المهتم بالثقافة، ومتحف التيت جاليري الحديث بلندن، ومتحف اورسي بباريس. ودعنا رفيقتنا التي كانت تركض على رصيف المحطة في قميصها الأخضر المنغولي، وحقيبتها العملية والتي تحمل تصاميم لكتب لانهائية.. غادرنا المحطة صوب مواقف سيارات الأجرة، طابور لا نهائي يقف بانتظار دوره، شاب لم يكف عن مراقبة ساعته، يبدو ان موعداً حميماً يفوته: «العاشرة ليلاً وهذا الطابور يتوالد من ذاته، لا يبدو له آخر». سيدة ستينية شعثاء بشعر نحاسي قصير تدخن وتتقافز متقلقلة متحدية. «لا تغادرا هذا الطابور البطيء لذاك، هنا سيارات الأجرة المرخص لها، اما تلك فأصحابها مخادعون. ولابد من اليقظة اثناء الانتظار حتى في الطوابير الرسمية واحتمالها للنهاية». ولا يجيبها احد، الكل بعينه على السيارات التي تتقاطر وتغرف من المنتظرين، تكمل. «انا اسافر كثيراً في العالم، وسأتنفس الصعداء غداً مثل هذا الوقت فسأكون باستراليا». «ولا يوجد محتالون باستراليا؟» سؤال شادية اعطاها الفرصة التي تنتظرها للاسترسال. «لا لقد تجولت من شمالها لجنوبها، من اعلى صخورها لأسفل محيطها.. هي بلد تجري كالساعة في الدقة والانضباط، بوسعك التنفس.. الأكسجين يقل تدريجياً في مدن كميلان.. انا من ميلان لكنني ومنذ الغد سأنتهي باستراليا، ولا مزيد من دعوات الاحتيال». وكانت ماضية في التدخين وخنق الطابور، ولم تكف تتحدث منحنية مع كل كلمة بكامل جذعها لكأنما تعاني تقلصات معوية، تقلصات مبعثها الكلمات، بعض الكلمات تحدث نوبات حادة، وبعضها سلس يطلع بحركات سلسلة من جذع المرأة بصوتها المسكون بحشرجة سنوات من التدخين.. يحاول الشاب التقدم عليها فتحذره ساخرة: «انتبه، قد ابدو خرفة لكنني اذكر جيداً انني اتقدمك في هذا الطابور..». «لا مشكلة معي». ويضطر للتأخر محرجاً.. لا نهاية للذاهبين والعائدين في اروقة العالم، والسؤال الى اين؟ وبأية سرعة خرافية يحشرون الكون لخاتمته؟ لا نهاية لهذه الدوامات التي تجتاح المدن التجارية الكبرى خاصة.. في طريقنا للمطار مغادرين لميلان فجراً كان لابد من مسح قلب المدينة، هناك كان المبنى الملفت بأقواسه الشاهقة من الحجر الرملي الأحمر والأبيض، مثل محاريب المساجد، بساحاته وأروقته وأعمدته وحدائقه وقبابه المتوجة برماح خلابة.. وتبرع السائق في زيه المهيب الأسود بالتعليق: «المقبرة». مقبرة لا تشبه المدينة، وربما تشبه اقدم احلام اهلها.. مقبرة تقول للأحياء: بوسعكم الحياة بالإيقاع الأسرع وبالمادية المطلقة لكن وحين موتكم ستأوون لتحفة من مخيلة اجدادكم. لن يبقى الا ابداع المخيلة البشرية!.