مصير اللغات ومستقبلها وإمكانية حمايتها في ظلّ العولمة وهيمنة بعض اللغات ومركزيتها، هو محور الكتاب الصادر حديثاً عن مؤسّسة الفكر العربي تحت عنوان «أيّ مستقبل للّغات، الآثار اللغوية للعولمة»، وهو من تأليف الباحث اللغوي الفرنسي لويس - جان كالفي، وترجمة الدكتور جان جبور. يسعى مؤلّف الكتاب إلى بلورة ما أسماه «علم السياسة اللغوية»، الذي يساعدنا في الإجابة على الأسئلة المعقّدة التي تطرحها العولمة في جانبها اللغوي. فالسياسات اللغوية برأيه، تشكّل «تدخّلات» تطال اللغة، أو العلاقات بين اللغات، لكنها ليست العامل الوحيد المؤثّر. فهناك أنواع أخرى من الإجراءات لا ترتبط بالدولة، يقوم بها أفراد أو مجموعات. من المقاربة التي قام بها على الصعيد النظري، ينتقل الكاتب إلى دراسة حالات يُظهر من خلالها أنّ المسألة اللغوية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوضع السياسي. من هنا، يقترح نظام خبراء للمساعدة على اتّخاذ القرار في مجال السياسات اللغوية، يقوم على وضع «تصنيف للحالات اللغوية والتدخّلات في هذه الحالات». لأن الهدف النهائي مزدوج الأبعاد: جمع الوثائق عن كلّ الحالات اللغوية في العالم، وإنجاز نظام خبرة مختصّ، يقدّم لنا الحالات المشابهة في كل أنحاء العالم. ويطرح الكاتب مسألة موت اللغات، معتبراً أن اللغات التي تندثر تؤشّر لحالات تتلاقى فيها عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، لتدفع بالمتكلّمين إلى الاستغناء عنها تدريجياً. وهذا يعني أن الإنسان في علاقته باللغات التي يخلقها ويعتني بها يومياً، يتمتّع بنوع من الحرية، ويتحمّل شيئاً من المسؤولية. ليس الإنسان هو الذي يتوقّف عن نقل لغته فحسب، وإنّما موازين القوى هي التي تفرض عليه هذا التخلّي أيضاً. لكن هل يتوجّب حماية كل اللغات واعتبارها متساوية ومنعها من الانقراض؟ يؤكّد كالفي أن جميع اللغات متساوية بنظر اللغويين، بما في ذلك اللغات التي تسمى «لهجات». وبعيداً عن هذا المنحى المثالي، يبيّن تحليل الحالات اللغوية في العالم أن اللغات غير متساوية. إذ يقتصر استخدام بعضها على وظائف محصورة، وليست مستخدمة في التعليم، فيما لغات أخرى هي لغات مهيمِنة، وتؤدّي وظائف رسمية، وأدبية، وثقافية، ودولية، أو تواصلية. ويرى كالفي أن العولمة التي تزيد مع وسائل التواصل، تُعمّق التفاوت بين اللغات، وتعزّز وضع اللغة المفرطة في مركزيتها، الإنجليزية، على حساب اللغات الطَرَفية. وإذا كانت اللغات غير متساوية في الواقع، هل يتوجّب علينا أن نكافح من أجل مساواتها؟ هل بإمكان السياسات اللغوية «حماية» اللغات المهدّدة بالانقراض، وهل يتوجّب عليها ذلك؟ يتوجّب علينا حين نقرّر الدفاع عن لغة، وحمايتها أو تعزيزها أن نتساءل أولاً ما هي الفائدة المرجوة للناطقين بها، وما هي وظيفتها الاجتماعية. لا يمكن لأيّ لغوي أن يَسعد لاندثار لغة، لكن ذلك لا يعني أنه يتوجّب علينا بشكل منهجي، حماية أشكال لغوية هجرها الناطقون بها. ويخلص المؤلّف إلى السؤال المحوري: أيّ مستقبل لغوي للعالم في ظلّ العولمة؟ ويرى أن الأوضاع اللغوية تتغيّر باستمرار، ومهما كانت عملية المسح دقيقة، فإنها لا تلبث أن تتبدّل بسرعة. والعوامل التي توثّر في هذه التغيّرات متنوّعة. فهناك الديموغرافيا، والنقل، والتحضّر، وسياسات الدول، والتكنولوجيات الجديدة، التي حوّلت العالم إلى «سوق» تحظى فيه اللغات بتراتبية، إذ يكون بعضها في قلب النظام العالمي، وبعضها الآخر على الطرف أو الهامش، ويتمّ التخلّي عنها شيئاً فشيئاً. يؤكّد الكاتب أنّ العولمة خلقت فجوة بين المركز والأطراف، ويرسم ذلك مستقبلاً لا تكون فيه، في مواجهة لغة العولمة، إلّا لغات إقليمية، هُوّية، بعد أن تكون اللغات الفائقة المركزية، كالفرنسية والإسبانية والبرتغالية والعربية، قد أُنهكت أو على الأقلّ وُضع حدٌّ لتوسّعها ولوظائفها. في مواجهة الجانب اللغوي للعولمة، يمكن للسياسات اللغوية أن تتراوح ما بين برامج طموحة ومُكلفة (مثل مشروعات التحالف بين المجموعات اللغوية)، وعمليات محلّية ذات طابع نضالي، فإذا تضافرت جهود الغالبية العظمى من المتحدّثين بلغة معيّنة للدفاع عنها، يمكن أن يبقيها في «سوق اللغات». والمؤلف يلقي محاضرة حول مستقبلها بمناسبة اليوم العالمي للّغة الأمّ، وصدور الترجمة العربية للكتاب الفرنسي «أيّ مستقبل للّغات؟ الآثار اللغوية للعولمة»، تنظّم مؤسّسة الفكر العربي، محاضرة بعنوان «أوزان اللغات في العالم وموقع اللغة العربية»، يلقيها مؤلّف الكتاب البروفسور لويس جان كالفي، وذلك يوم الأربعاء الموافق 21 من فبراير 2018، عند الساعة الرابعة والنصف، بجامعة «يوسف» طريق الشام. ويدير النقاش البروفسور جان جبّور، مُعرّب الكتاب والبروفسور جرجورة حردان. Your browser does not support the video tag.