حين يحب الإنسان من أعماقه يتبخّر من وجده مايشبه السحاب الذي لا يلبث أن يُمْطر شعراً جميلاً.. نعني الإنسان الموهوب، ملايين الناس هاموا حبا ولم يبدعوا شعراً ولا فنّاً، وإن تحدثوا بحرقة، وسالت جراحهم من سهام الجمال.. الحديث العادي لا يدخل باب الفن المُحصّن مهما كان صاحبه صادقاً.. الفنّ ابن الموهبة، فإذا وُجِدَت الملهمة اشتعلت النار في الموهبة فسال المطر وتميّز القصدير من الذهب.. كثيرون في القديم والحديث، هاموا حباً وغراماً، ووقعوا تحت أشعة فعّالة من جمالِ مُلهمة أو ملهمات، ولكن إذا لم يكن هناك استعداد فطري لإبداع الجمال الفنّي فإن ذلك الإشعاع مهما كان نبيلاً يظل حبيساً في صدور أصحابه كل عاشق يفزّ حين يسمع اسم محبوبته، ومهما صرخ ( ذكرّني الاسم بها!.. كم أحبها!) فهذا الكلام مجرد جسد لا روح فيه، ولكن حين يقول قيس بن الملوح: وداعٍ دعا إذ نحنُ بالخيف من منى فَهيَّجَ أحزانَ الفؤادِ وما يَدْرِي دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطارَ بليلى طائراً كانَ في صدرِي فقد بعث الحياة في شعوره، ومنعه من الاحتباس، ومنحه التَجَسُّد والبقاء والسيرورة بين الناس.. ولو أقسم عاشق بأغلظ الإيمان أنه يحب(فلانة) ويتأثر عند ذكرها، فإن شعوره مجرد إقرار وتقرير، يخصه وحده، وقد يتعاطف معه أهله وربعه، ولكنه لن يدخل باب الفن لأنه لا يملك مفتاح الباب وهو الموهبة، لكن إذا قال أبو ذؤيب الهذلي واصفاً نفس الشعور: (وإني لتعروني لذكراكِ هِزَّةٌ كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ) انفتح باب الفن لموهبته، وخلّد شعوره الذي حملته (الصورة الفنية) بجناحيها المرهفين لتطوف به على مرّ العصور .. وكل الفنون، بما فيها الشعر، تستمد من المادة خاماتها الأولية لتحولها إلى كائن جميل متعدد الأجساد والمعاني، فالشعر -والأدب كله- خامته اللغة، واللغة مادة متاحة للجميع، ولكنّها - في شكلها الأولي- مجرد حروف وأصوات، وفي شكلها الدارج مجرد ثرثرة، أو في أفضل الأحوال كلام لا يرتقي لمصاف الجمال الذي يستحق الإعادة ويمنح المتعة ويوحي بأشياء كثيرة تُسافر بالخيال وتمتع السمع والقلب.. كل الفنون تستمد خاماتها من المادة كالموسيقى والنحت والغناء والمسرح والرسم حسناً. ما الذي نريد الوصول إليه من ذكر هده الحقيقة البدهيّة؟! .. نريد القول: إنّ إبداع (الصورة الفنية) يعود مداه إلى مدى الموهبة الممنوحة لراسم الصور، شعراً أو لوحة أو منحوتة - فالمعاني ملقاة على الطريق- كما قال الجاحظ قديماً، وإنما الفضل للإسلوب والصياغة- وأضيف: وللروح التي تسري في العمل الفني وتجعله ينتفض بالحياة، حتى العواطف مرمية في الطريق، كل النفوس تجيش بالعواطف ولكنها لا تتجسّد في شكلٍ جمالي مؤثر إلا عند الموهوبين، فالرسام مادته ألوان متاحة للجميع، وناسج السجاد خيوط بسيطة وكذلك مطرز الحرير .. والآن نقدم صوراً شعرية فنية لا تخفى على فطنة القارىء: شاعره والليل شاعر والسهر غيمة مشاعر والعيون عيون غيدا ساحره والليل ساحر جوّنا صافي ودافي والوعد وافي وخافي ترقص النار بلقانا وتضحك حروف القوافي يا حبيبة علّميني كيف أجنّ وجنّنيني كيف أكون بدون كون وكيف أزل وتعذريني من عرفت الحب أغنّي الهوى فنّه فتنّي مفرداتي في غرامك ياغرامي شعلّلني (صالح الشادي) حي المنازل تحية عينْ لمصافح النوم سهرانه والاَّ تحية غريم الدين معسر ووافاه ديّانه منزل فريد البها والزين عطبول مكحولة اعيانه ودي بنسيانها ومن اين ينسى محمد لخلّانه اطيع انا في هواه اثنين سلطان قلبي وشيطانه اتبع هواها من اين إلى اين واحظى بشوفه ورضوانه وابغضت الادنين والاقصين واحببت قومه على شانه واقول يا أهل الهوي عِزّين ما قال محسن لعثمانه (محمد بن لعبون) وركاب أحلامي يحج إلى صِبَا كِالطاهرِ وهواكِ يصدحُ كالعذوبة فيخيالي الثائرِ ( عبدالرحمن الشرقاوي) صالح الشادي ريشة الأمير خالد الفيصل