الكتابة غواية وإغراء، وفخ تنصبه الحروف. وثمة أدباء كثيرون، ضحوا بالوظيفة الاجتماعية في سبيل العشق اللامنتهي "الكتابة". أخلصوا للأدب فخلدهم التاريخ. وأذكر أن الأديب والشاعر الراحل عبدالرحمن الشرقاوي، هجر المحاماة، من أجل صاحبة الجلالة والأدب، وسلك الأديب توفيق الحكيم ذات المسلك، فعندما أرسله والده إلى فرنسا ليدرس القانون، وقع أسير فنون المسرح. وانطلق الأديب الدكتور مصطفى محمود، من العلم والطب للكتابة، ولا غريب أن يختار الشاعر الأمريكي أوليفر هولمز الأدب بعد أن قضى حياته أستاذًا في التشريح وعلم وظائف الأعضاء، وكذلك حال الشاعر الإنجليزي جون كيتس، بعد أن حصل على شهادة في الصيدلة أغوته القصيدة فنشر مجلده الشعري الأول عام 1817. الكاتب الروسي الشهير أنطوان تشيخوف، يعود فيلخص مسيرته الحافلة بقوله "الطب زوجتي القانونية، والكتابة عشيقتي". وهؤلاء ليسوا الوحيدين، فقد جمع الدكتور يوسف إدريس بين الطب والأدب، والأديب محمد حسين هيكل بين القانون والأدب، وغيرهم الذين اجترتهم الكتابة إلى منفاها الجميل. العبودي: شخصيات المترافعين أثرتْ كتاباتي "المحاماة" يقول أدهم العبودي بهذا الخصوص: المحاماة لها دور في تخييل أحداث رواياتي إذ انشغل عن الكتابة بالمحاماة لبعض الوقت. سرعان ما تحاصره التساؤلات الذّهنية، وسرعان ما يجد نفسه توّاقًا للعودة إلى شخوص رواياته، يسامرها وتسامره، تستنزف من روحه، ويستنزف من مصائرها، ربّما لأنّ المحاماة –في حدّ ذاتها- مهنة العجائب، بل أنه يزعم إنّها مهنة الإيحاء العظيم، الذي ليس بعده إيحاء، تُلهمه كثيرًا حين يكتب بحسب رأيه. المحاماة عنده سبقت الكتابة، بمعنى أدقّ، سبقت احتراف الكتابة، والنّشر، فالكتابة لديه ممارسة منذ الصّغر، بدرجات، أمّا المحاماة فممارسة مختلفة، تحتاج الكثير من التهيئة، بل وتحتاج الكثير من الرصانة وتمالك الأعصاب، واكتساب الخبرات في التعامل مع الشخوص الواقعيين، لا الافتراضيين، عكس الكتابة، التي تصنع أنت شخوصها، وتخلقها بمعاييرك وتمنحها صفاتها وفق رؤيتك، ووفق خيالك. لذا؛ فهو يرى ان الكتابة لها الأولوية المطلقة، فهل سيأتي يوم يُضحّي فيه بالمحاماة لأجل الكتابة؟ ربّما، لم يتخيّل "العبودي" هذا اليوم قط، إنّما، إذا جاء يوم كهذا، ووضع بين شقي الرحى، وطُلب منّه الاختيار، سيختار الكتابة قطعًا، لا لشيء إلا أنّها الحياة بالنسبة له، هي كلّ شيء يُمكن أن يمنحه الأمل والحافز، رغم فضل المحاماة عليه، منحته استقرارًا وأسرة، لكن الكتابة منحته ما هو أكبر، منحته الرّوح على حد ماقاله. يحاول "العبودي" قدر جهده أن يجعل علاقتهما علاقة شراكة، لا علاقة تنافسية، يُوفّق بين هذه وتلك، وبين تلك وهذه، ويهذّبهما ليتناسقان حسب طبيعة حياته، فلا تجور واحدة على الأخرى، ولا ينكر –كذلك- أنّ المحاماة كان لها دور حيوي وأصيل في تخييل أحداث رواياته، بل صنع شخصيات رآها من لحم ودم، واستعان ببعض صفاتها أثناء الكتابة، حدث هذا مع رواية "باب العبد" و"متاهة الأولياء".إذ استطاع أن ينقل شخصيات مرّت به في واقع المحاماة، إلى داخل السّطور والأوراق، وأعاد بشكل ما تدوير طبائعها، لتتّسق مع مسار الأحداث داخل كلّ رواية، ومع ذلك، الكتابة مُرهقة، يزعم أنّها –ومع ما تمنحه من حياة- تأكل العمر، وسرعان ما نجدنا تفنى أعمارنا، وسرعان ما نجد أنّنا –يومًا بعد يوم- قد هرمنا. العشماوي: الحكم في القضايا منطلق للأفكار "القضاء" أما أشرف العشماوي، فعندما كان يقدم المستشار أشرف العشماوي، نفسه كقاض كان يثير الفضول ولا يعرف سببًا محددًا لذلك ربما مجموعة عوامل منها؛ صغر سنه وقتها، وربما بسبب غموض المهنة أو هيبتها، لكن منذ 2010، تبدل الحال فجأة بعد مقالات أدبية كثيرة كتبت عنه مصحوبة بصورته بالجرائد والمواقع الاخبارية الثقافية، وقتها الأمر اختلف بحسب رأية. الحلم بات قريبًا من التحقق، هو على أول الطريق الذي أراده، حتى كان فى 2012، لما وصل لجائزة البوكر الأدبية، صار معروفًا بكونه روائيا، وهذا أمر أسعده بل بات يفرحه أكثر. بالطبع أن يجمع بين روائي وقاض، فهو أمر يثير الفضول أكثر لكنه يحب أن يناديه الآخرون باسمه مجردًا من لقبه المهني، الغالبية تتعامل معه على أنه روائي، ويرى في عيونهم احترامًا لكتاباته، ربما الناس صارت تصدق الروائي الذي يروي لهم حكايات غير حقيقية أكثر من أي مهنة أخرى يفترض فيها توخي الصدق والدقة، ربما العقل الجمعي أفاق من غيبوبة طويلة وصار قادًرا على الفرز بعد يناير 2011. هو لا يدري. ويرى "العشماوي" أن القدرة على التأمل لبعض التفاصيل الصغيرة تصنع مشاهد عظيمة وقد تساهم فى تغيير مسار رواية ومصير شخوصها، فقد مرّ بآلاف القضايا لكنه لم يكن مرور كرام أبدًا، فكل قضية باشرها، دوّن عنها ملاحظات منذ بداية عمله بالنيابة العامة - نحو ثلاثين عامًا- من العمل، أضافت له الكثير من الخبرات المتراكمة، مخزون رهيب يلجأ إليه كلما شرع في كتابة جديدة، لا شك أن عمله أفاده وأعطاه صورة مقربة لأفراد المجتمع، صورة لهم من الداخل، لأدق تفصيلات حياتهم، لوجههم الاخر والجانب المظلم في أحيان كثيرة، والذين حاولوا اخفاءه عن الجميع حتى وقفوا أمامه. إذ رأى بعمق مثلما تكشف الأشعة الطبية، ما تحت الجلد. وربما كان كل هذا المخزون المتراكم سببًا فى الكتابة وربما كثرة القراءة، وربما كانت هناك موهبة ولم يكن يدري بها، لا يعرف بالتحديد السبب المباشر، لكن مثلما يفخر بمهنته كقاض، يدين لها بالكثير مما حققه كروائي، وإذا ما كان عمله بالقضاء قد جعله روائيا متمكنا كما يقول بعض النقاد والأدباء، فإن الكتابة الروائية جعلته قاضيا أكثر رحمة وأكثر انسانية. القرملاوي: المكتب الهندسي مرآة ثقافية "الهندسة" ويقول أحمد القرملاوي: أنا معجون بالموسيقى والشعر والرواية و"الهندسة" كثيرًا ما يُقدّمه أحدُهم لإحدِهم، بصفته شخصًا فريدًا متعدّد المواهب، ويمضي يُعدِّد له اهتماماته بترتيب ينمُّ عن اهتماماته هو، أو ما يراه الأكثر إبهارًا من غيره؛ "يؤلف الروايات"، "يُجيد الرسم"، "يقرض الشعر"، "يعزف العود"، "يُقال إنه يُحسن الطهي أيضًا!"، بينما ينضغط هو تحت وطأة كل عبارة، وكل نظرة مُلِحّة تدّعي التقدير. الأول يقصد إطرائه بعباراته، والثاني تقديري بإيماءاته، لكن كلاهما يضعه في ركن الحرج الشديد، فضلًا عن التساؤل الأزلي حول جدوى القيام بكل ذلك، وإمكانيته. يغادر "القرملاوي" المدرسة بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف العليا، وبالترتيب الأول ليس فقط على دفعته الدراسية بل على طلبة شهادته في الكويت قاطبةً. تريده والدته رسامًا عالميًّا، بينما يستخسر والده المجموع المهيب، ويدفعه صوب الطب أو الهندسة، وهو المهلهل بين موسيقى السرد والآلات، لا يحلم بغير الأدب. يرددون على مسامعه "ستفشل"، "لن تجد ما تعول به أسرةً ولا تُقيم به بيتًا"، "ماذا ستعمل بشهادة في الأدب؟"، فيفكر هو "ماذا سأعمل.. صحيح..ماذا ؟". وأخيرًا يتوجَّه مرغمًا للهندسة، مُحبطًا قليلًا، لكنه عازم على استمرار تفوقه مهما كان. بالفعل، يترك كل شيء ويتفرغ لدراسته، يتخرج بنفس الترتيب الأول، بذات المرتبة الشرفية العليا وذات التشتُّت بين ما يمكننه القيام به، وما يرغب في القيام به، وما يحلم به ولا يستطيعه. يمضي في الدراسة العليا، في العمل، في تأسيس البيت، ولا ينفك الحلم، يساوره بإلحاح طفوليّ، متى تعود لعزف العود؟ متى تكتب أول قصة؟ لِمَ لا تتحوَّل للتأليف الموسيقي وتهجر عالمك البائس الخشن؟ تمرُّ السنوات، ويستسلم يومًا لنداء الكتابة؛ يكتب أزمته، فتجر الكتابة سيل النداءات بلا هوادة، يشتري عودًا جديدًا ويضع الحامل المعدني في ركن المكتب، يعلِّق البورتريهات القديمة على الجدران، ويستقبل الإلهام متى جاء، يضع التصميمات، يوقّع العقود، يقود السيارة، وعقله هناك في عالم آخر، يُحادث الشخصيات ويدندن النغمات، حتى ينفرد بذاته لساعتين أو ثلاث كل يوم، فيقرأ ويكتب ويعزف ما استطاع، عازمًا على التطهّر من كل ما يدعيه طوال اليوم. وفي الصباح يزوره عميل في مكتبه الهندسي، سرعان ما يلحظ العود أو ينتبه للوحات، يعرج بهما الحديث بعيدًا عن العمل، ربما يلح عليَّه قليلًا فيسحب العود، ويمضي مع نغماته مُشتَّتًا، سعيدًا بهذا الشتات. تاج السر: حكايات المرضى «ملهمة» الطبيب "الطب" ويقول أمير تاج السر: أحد زملائي الأطباء سألني "ما معنى الرواية" ويرى الدكتور أمير تاج السر، أنه لا علاقة بين النشاطين "الأدب والطب" أبدا، فأحدهما يمكن تعلُّمه في الجامعات، بينما الآخر شيء مبثوث في الجينات، خُلِقَ به الإنسان، لكن الإجابة هذه- في نظر الكثيرين- غير مُقنعة، ولا بدَّ من علاقة ما، تجعل شخصًا يُمارس مهنة علمية بحتة، وتخلو من الرومانسية، يلجأ في الوقت نفسه إلى ممارسة هواية مليئة باللّغة السلسة المنسابة، والتعابير الإنسانية.. وهكذا. فإن العلاقة المباشرة، ليست موجودة على الإطلاق، إلا أنه، قد نجد تأثيرًا من مهنة الطبّ على الكاتب، الذي يزاولها، وأيضا تأثيرًا من حرفة الكتابة على الطبيب، الذي يكتب، فالمريض الذي يأتي مستشفيًا، له حكاية أو حكايات، في الغالب، قد تلهم الطبيب الكاتب وتدفعه للاستفادة منها، حكايات إنسانية، واجتماعية، وربما قانونية أيضًا. حكايات لم يكن الكاتب ليلم بها لولا أنه في خضم مهنة الطب. نعم، ثمّة استفادة قصوى في الاحتكاك بالإنسان في كلّ صور حياته اليومية، في الجد والهزل، في الصحة والمرض، وفي السفر والاستقرار، فكل حالة من تلك الحالات، تملك مقوّماتها الخاصّة، ولا يكون السلوك الإنساني داخلها واحدًا، ومن ثَمّ ما توحيه للكاتب الذي يحتكّ بها، يكون دائمًا مختلفًا. ويحكي "تاج السر" مواقف طريفة، إذ يقول" قد سألني أحد الزملاء مرّة، بعد أن سمع بأنني أكتب الرواية، عن معنى كلمة رواية، ولم أستغرب ذلك بالتأكيد، وهناك من يعمل معي، ويسألني باستمرار: هل لديك قصيدة جديدة، وهو يعني رواية، لكنه لا يستطيع تثبيت الاسم في ذهنه، ومرّة أهديت أحدهم كتابًا لي، أظنه العطر الفرنسي، بناءً على إلحاح منه، فقرأ صفحات بسيطة لم تتجاوز العشرين، وألقى بالكتاب،، وعاد ليسألني عن بطل القصّة، وهل هذا اسمه الحقيقي أم لا؟". لقد افترض الطبيب هنا، أن بطل القصّة شخص حقيقي، ينبغي أن يكون موجودًا، ولم تكن له دراية بعلم الخيال الذي يستوعب كلّ شيء ويمكن مزجه بالواقع في كتابة الأعمال القصصية. ويختم "إذن، لا علاقة لأية مهنة بما في ذلك مهنة الطب، بالكتابة الإبداعية. يوجد مبدعون في كلّ مهنة، ولهم أجواؤهم الخاصّة التي توفّرها لهم تلك المهنة، وحين يكتبون، سنسمّيهم كتّاباً، فقط، بلا ألقاب، تسبق أسماءهم". الطبيب د. أمير تاج السر القاضي أشرف العشماوي أثناء المرافعة المحامي أدهم العبودي