ينبئونا المشهد الأوروبي أن القارة العجوز في مرحلة تحول حقيقية على كل الأصعدة السياسية منها والاقتصادية وحتى الاجتماعية، فالأوروبيون يستشعرون الوطأة التي تخلفها هذه المرحلة لا سيما على المستوى الأمني والعسكري لذا اجتمع ثلاثة وعشرون وزير خارجية ودفاع في بروكسل قبل أيام ليوقعوا مبادرة "التعاون المنظم الدائم". تكشف هذه الاتفاقية عمق وقلق أوروبا من الاستحقاقات الأمنية والعسكرية فما الذي استدعى أوروبا للدفع بهذه الاتفاقية في هذا الوقت تحديداً؟ ثلاثة عوامل استعجلت الاتحاد الأوروبي لإنجاز هذه المبادرة التي رأتها مسؤولة الشؤون الخارجية فيدريكا موغيريني خطوة تاريخية واستراتيجية أول هذه العوامل هي تركيا وثانيها روسيا وآخرها أميركا. ولو نظرنا بتمعن لوجدنا أن عاملين من هذه العوامل وهما أنقرة وواشنطن واللذن يشكلان العمود الفقري للناتو يعيدان تشكيل تحالفاتهما واستراتيجيتهما في المجال العسكري والسياسي، فتركيا ثاني قوة في الناتو توطد علاقاتها مع روسيا بشكل يثير تحفظ بروكسل خصوصاً بعد التقارب العسكري بين الجيشين الروسي والتركي الذي يعتبر ثاني أكبر قوة في الناتو ثم مسألة شراء الصواريخ إس 400 الروسية، في لحظة يحتدم الصراع بين أنقرة وأبرز القادة الأوروبيين لا سيما المستشارة الألمانية التي لا ترى تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي لأسباب تتعدى نطاق السياسة إلى حالة ارتياب ثقافية والخشية من تأثيرات قد تلحق بالقارة ذات الطابع المسيحي، في هذه التجاذبات تبرز الاستراتيجية الأميركية التي جاءت مع تولي الرئيس أوباما مقاليد البيت الأبيض ليأتي الحديث عن الانكفاء الأميركي ويعقب ذلك انتخاب الرئيس دونالد ترمب الذي انتقد الناتو ورأى فيه عبئاً على أميركا. وقد يتساءل البعض عن الدور البريطاني، والحقيقة أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أزال العقبة لإنشاء جيش أوروبي موحد ولم يكن البريكست عاملاً للتفكير بإنشائه ففكرة هذا الجيش انبثقت منذ حوالي العامين مع دخول موسكو مسرح الأحداث جنوب المتوسط وشرق أوروبا. إذاً نحن أمام منعطف أوروبي دقيق على المسار العسكري سيعيد بلا شك ألمانيا المتحفظة دوماً على الانخراط العسكري إلى واجهة المشهد وقد يدفعها ذلك إلى تعديلات تطال تشريعاتها التي وضعت الكثير من قدرتها العسكرية في مرحلة تقنين، يدفع بهذا الطرح ورقة صدرت عن الجيش الألماني يضع فيها احتمالية انهيار الاتحاد الأوروبي في 2040، وهذا أمرٌ جد حرج على أوروبا التي يخطو فيها اليمين المتطرف خطوات واسعة نحو الأخذ بزمام المبادرة السياسية، وهو ما يستدعي سؤالاً مشروعاً عن إمكانية إحداث توازنٍ بين رغبة أوروبا الحفاظ على أمنها وبين خروج هذا الطموح عن مساره إلى مسارات أكثر خطورة تدفع به من مرحلة الدفاع إلى الهجوم.