لو عدنا إلى العام 1993 عندما انطلق أول أجزاء المسلسل الشهير "طاش ما طاش" سنجد أن هذا العمل الذي أنتج باجتهادات بسيطة من الثلاثي ناصر القصبي وعبدالله السدحان وعامر الحمود يمثل "وثيقة" تاريخية مهمة ترصد التطور الاجتماعي للمملكة خلال العشرين عاماً الماضية، سواء على مستوى الموضوعات التي يطرحها، أو آلية إنتاجه التي تعترضها في كثير من الأحيان قيود رقابية تعبّر عن "ذهنية" المجتمع في ذلك الوقت. في الجزء الأول والثاني من "طاش" لم يكن هناك ظهور لأي امرأة على الإطلاق في أي حلقة، في تعبير صريح عن موقف "الرقابة" الاجتماعية حينها من الممثلة السعودية. وفي الأجزاء اللاحقة التي استمرت حتى عام 2011 أخذ العمل ينمو مع المجتمع، يؤثر ويتأثر في نفس الوقت، وتحوّل إلى ما يشبه المرآة الآنية التي تعبر عن الوعي الجماعي في لحظة إنتاجه. حتى أن أي باحث اجتماعي يريد معرفة "مزاج" ووعي وذوق السعوديين في فترة ما خلال العقدين الماضيين فليس عليه سوى مشاهدة حلقات العمل التي عرضت خلال الفترة التي يغطيها البحث. هذه القيمة الاجتماعية للفن سنفتقدها في رمضان المقبل بعد إيقاف مسلسل "سيلفي" الذي حاول في مواسمه الثلاثة السابقة استكمال وظيفة "طاش" من حيث التفاعل مع قضايا المجتمع ورصد انفعالات السعوديين تجاه المتغيرات التي تطرأ على حياتهم. ومع غيابه، ستمر كثير من القضايا دون توثيق ودون أن يكون للفنان موقف منها. في سنوات مضت كان السدحان والقصبي يعانيان في ابتكار الأفكار التي تغطي ثلاثين حلقة في كل موسم من مواسم "طاش"، وذلك بسبب بطء الحراك الاجتماعي، والخصوصية، ومحدودية الفضاء الذي يتحرك فيه الفن وأفراد المجتمع على حد سواء. كانا يجتهدان كثيراً في الحصول على قضايا تستحق النقاش وبالكاد يجدان ما يغطي الموسم، إلى أن وصلا في المواسم الأخيرة إلى نقطة مسدودة ليس فيها أي جديد. كل هذا كان في السابق، أما في عامنا الحالي 2017 فإن الوضع تغير تماماً وأصبح الحراك الاجتماعي سريعاً، والتغيرات لا تتوقف، والتطورات مدهشة، ففي فترة قصيرة عاش السعوديون لحظات سعيدة مع قرارات تنموية مهمة، مثل الحرب على الفساد والسماح للمرأة بقيادة السيارة، إلى جانب قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية محورية جعلت من عام 2017 عاماً استثنائياً بكل المقاييس. ومن المؤسف أن يمر هذا العام المميز بدون توثيق فني يرصد موقف المجتمع تجاه هذا المنعطف التاريخي، ويسجل مشاعر الناس تجاه قرارات مهمة أخذت المملكة نحو درجات أعلى في سلم التطور الحضاري. لو كان ناصر القصبي وعبدالله السدحان يعلمان بأن هذه التحولات ستأتي الآن لربما تأخرا في انفصالهما واستعدا لتقديم "طاش" جديد، لكن بما أن عودتهما لبعض مستحيلة الآن وأبداً، فليس أقل من أن نطلب من بقية نجوم الدراما السعودية أن لا يتركوا عامنا الرائع يمر مرور الكرام، وأن يجتهدوا من الآن -هم ومديرو القنوات السعودية الرسمية والخاصة- لصناعة أعمال درامية جيدة لرمضان المقبل تسجل هذه اللحظات التاريخية بأسلوب يليق بقيمتها الاستثنائية.