يعرض هذه الأيام في صالات السينما الجزء الملحق بفيلم «بلايد رانر» الشهير بعنوان «Blade Runner 2049» من إخراج الكندي دينيس فيلينيوفي الذي اشتهر بأفلام مثل «كلية العلوم التطبيقية» عام 2009م، و»مساجين» و»عدو» عام 2013م. ربما يبدو الأمر عادياً في ذكر جزء جديد لفيلم ما، إلا أن الحالة في هذا الفيلم تبدو مختلفة لعدة أسباب وربما يكون استعراض هذه الحالة سبباً لنقاش فكرة الأجزاء المتعددة للعمل السينمائي، سواءً تلك التي تحاول أن تكمل شيئاً من حكاية العمل الأصلي، أو تلك التي تحاول عرض ما سبقَ أحداثَ حكاية العمل الأصلي. ما يجعل فيلم «بلايد رانر 2049» حالة مختلفة، يعود إلى عدة أسباب أولها أنه فيلم إلحاقي وجزء ثانٍ لفيلم عرضته دور السينما في عام 1982م، وحقق وقتها شهرة جماهيرية واسعة وتقديراً نقدياً كبيراً، كما لا تبدو هناك أي اعتراضات تنفي ارتباط ذلك بمخرجه، وهو رايدلي سكوت، الذي اتكأ في هذا العمل وأعمال أخرى على القصص القصيرة لفيليب كي ديك، كاتب الخيال العلمي الفذ، الذي أثرت قصصه القصيرة على شريحة واسعة من أفلام السينما والأنمي وألعاب الفيديو ومسلسلات الخيال العلمي ومسلسلات الكرتون الأميركية. رايدلي سكوت هو الآخر حقق بنفسه جزءاً استباقياً لفيلمه عام 1979م «إلين»، الذي تبعته ثلاثة أجزاء لجيمس كاميرون وديفيد فينشر وجان بيير جانيت علي التوالي في أعوام 1986م و1992م و1997م. فعل رايدلي ذلك تباعاً عبر فيلمين الأول «بروميثيوس» 2012م ثم «إلين: الميثاق» قبل منتصف هذا العام. إذاً نحن أمام ظاهرة تبدو فيها أفلام رايدلي سكوت تختبر فرادة قصصها عند جمهور الألفية المفتونين بقصص الأبطال الخارقين ورموز الفانتازيا وجمهورها الأول من الذين يبدون مرتبطين بكلاسكيات السينما في القرن الماضي، وكأن في ذلك إنقاذاً لهم، من طوفان الأفلام المزدحمة في برمجيات تتبع نظام الخوارزميات، لتحديد أنماط ذوقهم وأفلامهم ومسلسلاتهم المفضلة. ربما يكون الأمر الآخر اللافت للانتباه في حالة فيلم «بلايد رانر 2049»، هو فيلم الأنمي القصير الذي سبق عرض الفيلم السينمائي، أعني به عمل المخرج الياباني العتيد شينشيرو واتانابي «بلايد رانر: بلاك آوت 2022»، والذي جاء بالاتفاق مع دينيس فيلينيوفي. وجدير بالذكر القول: إن واتانابي هو الآخر حقق فيلماً أنمياً لافتاً، تبع -وارتبط بشكل مباشر ضمن سلسلة أفلام أنمي قصيرة أخرى- صدور فيلم «المصفوفة - الماتريكس» عام 1999م. لا شك أن حالة حكاية «بلايد رانر» كانت دائماً مثار اهتمام فكري وفلسفي، منذ الاقتباس الطليق الذي حرره رايدلي سكوت لسيناريو فيلمه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، من قصص فيليب سي ديك، الذي تعيش قصصه هو الآخر نهوضاً جديداً، وذلك من خلال الأعمال التي بدأت تظهر من جديد اعتماداً على قصصه القصيرة، فالقناة البريطانية الرابعة تعرض منذ منتصف سبتمبر الماضي سلسلة تلفزيونية بعنوان «أحلام فيليب ديك الكهربائية»، وكم سيكون مدهشاً أن نرى أعمالاً مثل «ثورة صغيرة»، و»السلاح»، أو «استقرار»، على الشاشة قريباً. يمكننا النظر قليلاً للوراء، لنرى كم مرة تكررت موجة الأجزاء الإلحاقية كثيراً فيما يمكن أن نطلق عليه جدولاً بيانياً لاتجاهات السينما العالمية. في مطلع العشرينيات ومع بواكير السينما قام توماس ديكسون الابن بتحقيق فيلمه «أفول أمة» 1916م كقصة ممتدة لما حققه دي دبليو غريفيث في فيلمه السابق بعام «مولد أمة»، وربما كان هذا أول ما يمكن إطلاق عليه مفهوم الجزء الثاني أو التابع «Sequel" كما في اللغة الإنجليزية، مع حديث عن أفلام رحلات غوليفر وغودزيلا وزوجة فرانكشتاين. فيما بعد، وبعد عقود برزت أفلام الإثارة والرعب وأفلام الكوميديا لتكون هي الأكثر حظوة فيما يتعلق بأجزاء إلحاقية مثل سلسلة إيفل ديد، وحرب النجوم، والعودة إلى المستقبل، والفك المفترس، وإنديانا جونز، ووحيداً في المنزل، وآيس فنتورا، وتيرمنيوتر، والماتريكس، وهاري بوتر، وسيد الخواتم، وقراصنة الكاريبي، والمتحولين، ناهيك عن أفلام الأبطال الخارقين ذات الأجزاء المتلاحقة كالسيل الهادر وغيرها من الأفلام التي اكتسبت مع الزمن قيمة معينة، بعضها عاد في شكل مسلسل كرتوني مثل «ريك ومورتي»، أو حتى منفردة مثل فيلم «آيدول هاند»، أو أصبح ماركة لمناسبة مثل الكريسماس كل عام عند الأميركيين تحديداً. «العراب» يبدو نموذجاً منفرداً في مفهوم الأفلام ذات الأجزاء، على الرغم من إصرار الكثيرين على أن الثالث لا يعدو أن يكون هفوة كان يجدر بفرانسيس فورد كوبولا تجاوزها. قد تكون أكثر النماذج مشابهة لهوليوود هي في الشرق، فاليابان على سبيل المثال تحمل في جعبتها سلسلة للأفلام ذات الأجزاء المتعددة، وفي قصص إثارة وحركة أو أعمال رومانسية على خلاف المعتاد، وهي في غالبها تنتمي لحكايا وقصص المانجا والأنمي مثل سلسلة «الغراب»، وأفلام زاتوشي. الأمر نفسه يتكرر في الصين وكوريا والهند. في أوروبا لم تكن هذه الفكرة رائجة سوى على نطاق ضيق، ارتبط أشهرها بأشخاص مثل الفرنسي لوك بيسون كمنتج ومخرج، أو البولندي نيكولاس فايندينغ رفن في سلسلته المعروفة «بوشر». وربما يعود ذلك لسيطرة مزاج معين على السينما الأوروبية رغم تنوع تياراتها. في العالم العربي يبدو النطاق أضيق وأضيق، فلربما تكون التجربة الأبرز في مفهوم الأفلام ذات الأجزاء المتعددة هي تجربة «بخيت وعديلة»، و»اللمبي» ولا يسع المجال هنا نقدها سلباً أو إيجاباً، وربما يكون فيلم «الجزيرة» هو الآخر نموذجاً لفيلم يمد حكايته على أكثر من جزء، وبمحاولة جريئة في مقاربة أفكاره الداخلية بما يحدث في مصر آنذاك. البعض يورد اسم سلسلة أفلام إسماعيل يس ضمن التجربة، لكن أفلام إسماعيل يس التي ابتدأت من منتصف أربعينيات القرن الماضي وحتى منتصف الستينيات كانت تشترك فقط في الاسم، والذي يحمل في طياته قصة مختلفة ومنفصلة. المخرج يسري نصر الله استثمر رواية إلياس خوري الشهيرة «باب الشمس» وقدمها في جزأين متصلين وعلى مدى عامين متتالين 2004م و2005م، وبعنواني الذهاب ثم العودة. عندما نتأمل ظاهرة الأجزاء المتعددة عن بعد، فإن أول ما نستحضره هو المنطق التجاري الكامن خلف استثمار القصة وامتصاص ما يمكن من عصارة الفكرة حتى لو كان ذلك على حساب سمعة ما نجح منها. ثم يأتي لاحقاً ضرورة الأجزاء اللاحقة كما يحدث في سلسلتي سيد الخواتم وهاري بوتر على سبيل المثال لا الحصر. لكن ومن خلال استقراء عالم السينما بشقيه المنتج والمتلقي، فإن هناك الكثير مما يكمن خلف المشهد، مثل رغبة الجمهور بالزيادة، وازدياد وتيرة الاستهلاك، وظهور أعمال تحاول التشبه بأعمال أصيلة دون أي بادرة نجاح، العقود المفتوحة دون تنفيذ لأجزاء أعمال شهيرة من عشرات السنين، يضاف إليها فكرة رغبة بعض الأسماء من مخرجين وفنانين، البقاء في ساحة الأحداث. هذه الأيام يعرض فيلم «بلايد رانر 2049» في صالات السينما حول العالم، إنه مشهد مثير للاهتمام، فهناك جيل جديد يشاهد تحفة سينمائية تتكئ على تحفة سينمائية أُبدعت قبل أكثر من 35 عاماً، إنه يتعرف عليها، ويشارك جيلاً يعرفها. مشهد يتكرر مرتين من خلال رايدلي سكوت، وهو بحق دلالة على عمق تأثير مسيرة حافلة باختيارات تستطيع أن تمد متنها عبر السنين.