الكتب العظيمة لا تموت، لا يموت تأثيرها ولا الفائدة التي يمكن الخروج بها منها. أعتقد أن كتاب قدمي اليسرى إحداها. الكتاب نشر في العام 1954. وأنتج كفيلم في العام 1989. ومن حظي أنني لم أشاهد الفيلم، لأن الأفلام تفسد علي متعة الكتاب كما تفعل الكتب بالنسبة للأفلام. قرأت الكتاب بالعربية، واستمتعت بالقراءة لأبعد درجة، كانت الترجمة سلسة ورائعة، لا تشعر معها بأنك تقرأ كتاباً مترجماً، أشكر المترجم خالد الغنامي الكاتب المعروف على هذا الجانب من إبداعه الذي لم أكن أعرفه وأتمنى أن يمتعنا أكثر بترجماته. الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية للكاتب والتشكيلي المصاب بالشلل الرعاش -كما تقول الترجمة التي اختارها المترجم للكتاب- كريستي براون. كتب السيرة التي تحتوي على هذا النوع من المعاناة ملهمة إلى درجة كبيرة حين تكون خالية من البكائيات واستدعاء الشفقة. وكما في أغلب القصص التي يتحدى فيها المعاقون إعاقتهم فقد كان المحرض الأول هو والدة كريستي، التي آمنت أن ولدها ليس متخلفاً عقلياً وأنه يمكن أن يحقق شيئاً ما، وبالرغم من فقر الحال والولادات المتكررة والرعاية التي يجب أن تمنحها لكل أفراد العائلة، فقد خصصت له أوقاتاً طويلة تتحدث معه وتعلمه وتحاول أن تحصل على أي رد فعل منه. الأمهات يصنعن الحياة. مسألة مفروغ منها، لكن ها هو إثبات آخر على عظمة الأمهات. ينتقل كريستي من الحديث عن عائلته وكل البهجة التي صاحبت مرافقته لإخوته في سنوات طفولته، إلى مراهقته حين صدمته الحقيقة بأنه مختلف ولا يمكنه القيام بأبسط الأمور، أن الفتيات اللاتي يعجب بهن ينظرن إليه نظرات شفقة لا إعجاب. وأن حالته ميؤوس منها. استخدم كرستي قدمه اليسرى والتي كانت الجزء الوحيد من جسده الذي يمكنه التحكم به في الرسم والكتابة منذ طفولته. من هنا جاء عنوان الكتاب، قدمي اليسرى. هناك مؤسسات كثيرة وأطباء كثيرون، ممرضون وأسماء أخرى كثيرة كانت سبباً قوياً في التقدم الذي حظي به كريستي. كانت هناك مستشفى يعتني بالأطفال الذين يعانون من هذا المرض، يدربهم على القيام بالحركات التي تساعدهم في التخلص من إعاقتهم الجسدية. كريستي كان من عائلة فقيرة، لكنه حظي بكل العناية التي يمكن أن يحظى بها أي طفل من أي طبقة أعلى، كانت هناك أحيانا تكاليف مالية، لكنها لم تكن صعبة إلى الدرجة التي تحرمه من المساعدة التي يحتاجها. لا يمكن أن أختصر في مقال مقدار أهمية الكتاب. واللحظات الصعبة واللحظات المهمة واللحظات التنويرية التي يمتلئ بها. لذلك أتمنى أن يقرأه الجميع. لكن تظل هناك مسألة مؤلمة لأبعد درجة تصيبني دائماً بالحيرة، الكاتب كتب هذا الكتاب في العام 1954، والعناية التي حظي بها كانت في الأربعينات من القرن الماضي. ونحن، هنا، مازال أبناؤنا الذين يعانون من هذه الحالة يبحثون عن مكان لهم في مؤسسات خارج الوطن عن سوء خدماتها. ألم يحن الوقت كي يصبح لدينا هذا النوع من الخدمات.