من جرب الحج لابد أنه عاش لحظات عظيمة يصعب وصفها، تجربة تتجاوز الكلمات، لأنها تخترق الوجدان وتصنع حالة من التساؤل الذي لا يمحى من الذاكرة. المشهد الكوني في الحج محصور في أمكنة المشاعر، في جغرافيا محدودة جداً يتجمع فيها ملايين البشر، لكنه مشهد متجدد بتجدد الناس وبامتزاج الثقافات في مكان واحد. في الحج فقط يتجاوز كل الناس محدداتهم النفسية والاجتماعية ويتقبلون الآخر بكل أريحية ودون تذمر. هذا الكلام ليس مجرد افتراضات بل هو واقع، وقد كنت أسأل نفسي منذ سنوات عن السبب الذي يجعل الناس في الحج وفي المسجد الحرام على وجه الخصوص يتقبلون كل هذا التقارب دون أن يكون هناك نفور شاذ، خصوصاً بعد أن قرأت كتاب "إدوارد هول" الموسوم "البعد الخفي" Hidden Dimension الذي يؤكد على أنه في كل ثقافة يوجد مسافات محددة يقبلها الناس بين بعضهم البعض فكيف تذوب هذه المسافات في الحج. وقد أتاني الجواب قبل سويعات من كتابة المقال من خلال أطروحة الدكتوراة التي قدمها هاني النابلسي عام 2015م في جامعة ساسكس، وهي دراسة متخصصة في علم النفس الاجتماعي ركزت على العلاقات بين الحشود المتعددة الثقافات في الحج وإشكالية الهوية ومحاولة التعبير عنها والإحساس بالأمان والاطمئنان والرغبة في التعاون بين الحجيج. ربما تعتبر هذه الدراسة هي الأولى في هذا المجال لكنها تؤكّد أن "الحج" ظاهرة ثقافية كونية لها أبعاد إنسانية غير منظورة. لا قطر ولا جزيرتها ولا غيرها من الدول يستطيع أن يهز ثقة العالم في قدرة المملكة على إدارة الحج، ولن ينجح الأقزام في مقارعة الكبار.. اليوم هو ثاني أيام عيد الأضحى المبارك، شعائر الحج في أواخر أيامها، إنها تجربة فريدة تعيشها المملكة كل عام تنعكس على مخيلة أبنائها، فلا يمكن فصل شعائر الحج عن ذاكرة أبناء المملكة العملية. ومع ذلك فإن إدارة هذه الظاهرة، التي يعتقد البعض أنها سهلة وبسيطة، هي في الحقيقة أكثر تعقيداً وإدارة الحشود، على وجه الخصوص، تتطلب مهارة وخبرة اكتسبتها المملكة عبر السنوات، وأبدعت فيها أيما إبداع. التعامل مع كل هذا "الموازييك" الثقافي بدراية ومعرفة وتقديم كل الخدمات لهذه الحشود الهائلة هو التحدي الأكبر. بعض الصور التي هزتني من العمق، طابور سيارات الإسعاف وهي تنقل الحجاج المرضى من المدينةالمنورة إلى عرفات كي يلحقوا الحج، المستشفيات المتنقلة التي تجري عمليات جراحية معقدة ومكلفة للحجاج دون كلل أو ملل. مجرد الحديث عن الخدمات الصحية وعن فرق التوعية النسائية والمراكز الإسعافية والخدمات العظيمة التي يقدمها السعوديون حكومة وشعباً، عسكريين ومدنيين، رجالاً ونساء لضيوف الرحمن، هي مشاهد مؤثرة تتكرر كل عام على مدى التسعة عقود الأخيرة. ثقافة خدمة الحجاج مترسبة في نفوس وعقول أبناء الحرمين الشريفين، ويشعرون بالفخر كونهم حظيوا بهذه الخدمة العظيمة. الإحساس بالمسؤولية الذي يشعر به السعوديون ويمارسونها عملياً لإنجاح هذه الشعيرة تقطع الطريق على كل من يشكك في عمق هذه الثقافة المتأصلة لدى أبناء وبنات المملكة. خلال الأسابيع الأخيرة تابعت ما أثارته قطر حول تسييس الحج، ولا أقول إنها إثارة مضحكة، لأني شعرت أن قطر مثل الغريق الذي يريد أن يتعلق بقشة، وهذا أحزنني كثيراً، لأنه ما كان يفترض أن تلعب بورقة الحج، وهي الشعيرة الكبرى التي، بكل تأكيد لن يسمح أي سعودي بالمساس بها. أعتقد أن قطر، فقدت آخر ورقة يمكن أن تجعل السعوديين يغفرون لها خطاياها. الحج خط أحمر، والسقوط السياسي الذي مارسه الإعلام القطري ومحاولته المستميتة لتسييس الحج كان سقوطاً مروعاً ومحزناً. لا قطر ولا جزيرتها ولا غيرها من الدول يستطيع أن يهز ثقة العالم في قدرة المملكة على إدارة الحج، ولن ينجح الأقزام في مقارعة الكبار، وإذا كانوا اعتقدوا أن قشة تسييس الحج سوف تنقذهم من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه فقد أخطأوا خطأ كبيراً وركسوا أنفسهم في الوحل أكثر. سيظل الحج الشعيرة الأسمى وستظل المملكة هي الدولة الأقدر على إدارة هذه الفريضة، ويبقى أن أقول: إن تنظيم الحج ووضع بعض القيود التي تحمي الحجاج هو واجب أصيل للمملكة، ومهما حاول قصيرو النظر استغلال هذه التنظيمات لخدمة أغراضهم الدنيئة فلن يفلحوا أبداً.