يحكى أن أباً فاضلاً من زمن الطيبين كان مجتمعاً بصحبة طيبة من أمثاله يحتسي الشاي بسعادة واطمئنان في استراحته التي يستشعر فيها أُنساً وانسجاماً حتى دخل عليهم صديق قديم يزورهم من وقت لآخر محملاً بالأخبار وببعض من القيل والقال مبتسماً يغالب الضحك ويعجل في السلام لما يتوق للبوح به من كلام. وبعد أن سكب الأب الفاضل للصديق شيئاً من الشاي سأله بخبث عن ابنه فلان عن حاله وفي أي صف دراسي هو الآن، رد عليه الأب الفاضل بكل براءة شاكراً له السؤال والاهتمام لكن الصديق لم يطاوعه الصبر فقاطعه مؤيداً والله ولدك فنان! لم يفهم الأب الفاضل معنى الكلام حتى بادره الصديق بمقطع على (اليوتيوب) لابن الأب الفاضل وهو يصدح بأغنية معدومة الألحان ويتراقص مثل قرد ممسوس بملابس متناقضة الألوان، رأى الأب المقطع متشككاً وتساءل من هذا المهرج الطربان؟ فرد عليه الصديق مبتهجاً إنه ابنك فلان صار نجمًا يشار إليه بالبنان فمقاطعه المضحكة وتهريجه قد رفعت شأنه حتى طال من السماء العنان. لم يطل الأب من بقائه وانسحب بهدوء متعللاً بحجج فهم منها الحاضرون أن الأب مصدوم مما رآه من ابنه فلان. دخل الأب إلى بيته ثائراً مما لحق بسمعته من فضيحة بعد ما عمله ابنه من فعل مثير للاستهجان فرأى أمامه زوجته وابنه الأكبر وسألهم إن كانوا على علم بما يفعله ابنهم من مقاطع على الملأ بدون وعي أو اتقان، واستغرب عندما هز الاثنان رأسهما بإمعان وبأن ما رآه على أنه فضيحة أمر شائع بين الشبان وبأن ابنه قد حقق أرقام متابعة خيالية جعلت منه مشهوراً يجني من شهرته الملايين بما ينشره كل يوم من قفشات وأغان وألحان وأن الحظ قد ابتسم له ولأهله فليس مثله اثنين فتعجب الأب من أمره وأعلن بعد ذلك الإذعان. هذه القصة المسجوعة شبيهة في سياقها بصنعة كانت في يوم من الأيام رائجة كسلعة للكتابة والترفيه والسرد يحب أن يسمعها عامة الناس بالرغم مما قد تحمله في طياتها من تكلف لا يرتقي لذائقة النخبة أو الوقورين من المجتمع كذلك هو الحال الآن مع ما تفرزه وسائل التواصل الاجتماعي من غث وسمين وما يعرض في سوقها من بضاعة تستغرب أحياناً من وجود طالبين لها فما بالك لو قيل لك بأنها رائجة. ولم يعد الأمر محكوراً على سن معينة لتربطه وفق السياق العلمي للبحث بعوامل ثابتة مثل العمر أو المستوى الاجتماعي فقد تجد صغارًا وشباباً وكهولاً صنعوا لأنفسهم شهرة بما يقومون به من أعمال قد يراها البعض فضائح لكنها فضائح مدفوعة الثمن! ومع أن القاعدة الثابتة تنطبق عليهم مثلما انطبقت على غيرهم بأن البقاء للأقوى والأجد وأن الوقت كفيل بتغييب من احترقت كروته مع كثرة التكرار إلا أنها مع ذلك تظل متسامحة أكثر معهم بعد أن أتقن كثير منهم فن التغيير والتحول وعلمته التجارب أن الملل يقهره التجديد، والتجديد وارد مهما كانت مسوغاته فمن بدأ مهرجاً مضحكاً تحول ليكون مغنياً وبعدها ارتأى في نفسه قدرة ليكون مذيعاً محاورًا أو واعظاً منظراً يسرق المعلومة من أي موقع يتصفحه على أنها حكمة هو صاحبها! ومن كانت تتقن الطبخ تحولت لسرد القصص ونشر المقاطع عن أبنائها ومن كانت ترى في التصوير الفوتوغرافي سلعة لها تركته لمجالات أخرى تبعد الملل عن كل من يشاهدها حتى ولو كان وصفاً لحالها مع زوجها وأطفالها، حتى تحول الحال بعد أن كان المرء يدعو ربه بإلحاح ألا يجعل منه (فرجة) للناس. لنقيض الدعوة بأن يسخر له الحظ ليكون فرجة لأكبر عدد من المتابعين أو الفضوليين. ومع أن بعض المفكرين والمنظرين يرون في هذا التحول الطارىء للسلوك الإنساني الحريص دائماً على المحافظة على الدائرة الخاصة به من أن تنتهك مؤشراً خطراً قد يكون له انعكاسات غير متوقعة ينتج عنها تحولاً آخر معاكس موغل في العزلة بعد أن تفقد الثقة بسبب انتهاك الخصوصية وتدني العرض ليقل معه الطلب. مما دعا كثيراً من القلقين من هذا التوجه إلى رفع شعار عالمي توقفوا عن جعل الحمقى أغنياء بالتوقف عن متابعتهم ولو كان الأمر سهلاً للاقى هذا الشعار نجاحاً لأنه صادق وحقيقي إلا أن ما يصعبه أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تصنف متابعينها مثلما المجتمع يصنفهم ومن كان له ملايين المتابعين سيظل نجماً حتى ولو كان ثلاثة أرباع متابعيه شاهدوه لمرة واحدة واكتفوا لكنهم تناقلوا مقطعه انتقاداً له أو ضحكاً عليه واستهجاناً له. وما لم يكن هنالك وعي من المتابع يحثه على تقييم المعروض عليه بسؤال واحد هل يستحق هذا المشهور أو الساعي للشهرة أن أشهره وأرسل ما قام به لشخص آخر ليتابعه؟ أم أن ما قام به هو فضيحة من الواجب سترها حتى لا تجلب له ملايين لا يستحقها..