الفن ليس توثيقاً لأحداث الواقع فقط، بل هو وجهة نظر قبل كل شيء، يعبر من خلالها الفنان عن موقفه تجاه حدث ما، أو قضية ما، أو فكرة ما، في أي زمن وأي مكان. هذا المفهوم قدمه بوضوح المخرج علي الكلثمي في فيلمه القصير "وسطي" الذي عرض مساء أول أمس الاثنين في جامعة اليمامة بالرياض، حين استغل حادثة اليمامة الشهيرة التي جرت في الجامعة نفسها قبل نحو عشر سنوات، ليحكي قصة مجتمعٍ بدأ يستعيد عافيته بعد سبات طويل استمر لعقود. يروي تاريخنا القريب أنه في عام 2006 عرضت جامعة اليمامة مسرحية بعنوان "وسطي بلا وسطية" من تأليف معالي وزير التعليم د. أحمد العيسى الذي كان مديراً للجامعة حينذاك، وقد توقفت المسرحية بعد عرضين فقط بسبب هجوم ثلة من المحتسبين على الممثلين والاعتداء عليهم بالضرب أثناء عرض المسرحية. وأثارت الحادثة جدلاً كبيراً حينها، خاصة بعد أن تم توثيقها بالفيديو من قبل المتفرج فيصل العامر الذي سيصبح فيما بعد كاتب المسلسل اليوتيوبي الشهير "مسامير". استغل المخرج علي الكلثمي هذه الحادثة ليبني عليها حكاية متخيلة تعبر عن رأيه في الأثر الذي تركته أحداث اليمامة على المشهد العام في المملكة، فبدأ فيلمه بتوثيق حرفي للحادثة لم يستغرق أكثر من دقيقتين، بدأ بعدها بسرد حكايته الخاصة واختار لها بطلاً خاصاً يعشق الفن ويعمل في محل لبيع الآلات الموسيقية في الرياض. هذا البطل الذي أدى دوره مؤيد النفيعي، يشعر بتهديد كبير بعد أن أثبتت الفحوصات الطبية أنه مهدد بفقدان البصر خلال سنوات معدودة، لينطلق في رحلة مع الكتب والسينما والفنون، يحاول ارتشاف أكبر قدر منها قبل أن يغرق في الظلام، فيغوص في المكتبات، ويشاهد "المواطن كين" و"الساموراي السبعة" و"باب الحديد"، لكن النهاية المحتومة تأتي، فيخيم السواد على حياته، ويقدر له بعد ذلك حضور عرض مسرحية "وسطي" دون أن يدرك أن هذا العرض رغم نهايته المأساوية وأحداثه المؤسفة سيكون بداية علاجه. وهذه رمزية ذكية يمكن إسقاطها على المجتمع بأكمله. المجتمع المثقف الذي تشرب الفنون، ثم أصيب بالعمى لأسباب وراثية! قبل أن يستيقظ بسبب "ضربة ما" جاءته في حادثة اليمامة أو غيرها من الحوادث الشهيرة. قال علي الكلثمي هذا المعنى بأسلوب سردي رشيق وسريع، بدا أقرب لأسلوب اليوتيوب منه إلى روح السينما، لكنه كان أسلوباً كافياً ومناسباً للنقلات السريعة لمجرى الأحداث، ومناسباً أكثر لصياغة هذا المعنى العميق في أقصر زمن ممكن. فيلم "وسطي" يقول إن المجتمع يتغير نحو الأفضل. وما عرض الفيلم في جامعة اليمامة بالذات وهي التي شهدت الأحداث المأساوية قبل عشر سنوات، إلا تأكيد لهذا المعنى. كما أن حفاوة الجمهور بالعرض السينمائي يشي بترحيبهم الكبير بالسينما ويؤكد أيضاً على أن المجتمع بدأ يعود لطبيعته، محباً للفنون والجمال. ولم تكن تلك الضربات التي سدّدها بعض المتشددين إلا دافعاً لمستقبل أفضل، ليس لبطل الفيلم فقط، ولا للمجتمع فحسب، بل أيضاً لكل من شارك في المسرحية الشهيرة ذاتها، فكاتبها أصبح وزيراً للتعليم، ومخرجها الأستاذ رجا العتيبي لم يتوقف وحصد بعدها نجاحات أكبر، وبطلها حبيب الحبيب أصبح من نجوم الدراما السعودية، بل حتى مصور فيديو الضرب الشهير فيصل العامر الذي كان يومها مجرد متفرج بسيط أصبح اليوم من أهم كتاب السيناريو في المملكة. الفيلم من إنتاج مركز الملك عبدالعزيز الثقافي التابع لأرامكو، وقد عرض أولاً في أيام الفيلم السعودي في أميركا صيف 2016، ثم عرض في مهرجان "أفلام السعودية" في الدمام قبل نحو شهرين. ويعد امتداداً لتميز مخرجه علي الكلثمي في صناعة الأفلام على قناة تلفاز في يوتيوب، خاصة سلسلته الناجحة "خمبلة". علي الكلثمي