إن حرمة المال العام أشدّ حرمة من المال الخاص؛ لأن المال الخاص يمكن أن تُسوى قضيته بإبراء الذمة من صاحبه، أمّا المال العام فلا تبرأ ذمته إلا من مُلاك ذلك المال وهم جميع المواطنين، وهو ما اصطلح على تسميته بمال الدولة.. كانت كوارث أمطار جدة أول مواجهة علنية في بلادنا للفساد والمفسدين، ما فسح المجال لكتاب الرأي لكتابة مقالات عن هذا الداء العضال الذي نما، وكبر، وتغلغل في بلادنا كوحش من الوحوش الأسطورية التي لا سبيل إلى دفع شرها ومقاومتها. وكنت كتبت منذ 6 ديسمبر 2009م وحتى 26 يونيو 2016م عدة مقالات عن الفساد وأهله، ولعل أجمل ما فيها إجماع القراء على أنه لا أمل في اجتثاث الفساد إلا متى شُهّر بالفاسد، بإعلان اسمه، وحوكم على فساده، ناهيكم عن تفعيل قانون (من أين لك هذا) وتطبيقه على كل من يتولى منصبًا عامًا. وكنت كتبتُ ذات فاجعة: إن المحاسبة والمحاكمة تحولان دون استباحة المال العام؛ لأن مال الدولة هو مال المواطنين كافة، ومن يخشَ المحاسبة والمحاكمة فلن يجرؤ على نهب هذا المال. فلقد مرّ علينا زمن كان بعض الفاسدين يتباهون بسرقاتهم التي سرعان ما تبدو مظاهرها عليهم، فيبنون القصور، ويقتنون السيارات الفارهة، ويشيدون المشروعات الكبرى، مجاهرين بلا خوف من الله ولا حياء من الناس، أحد أولئك المباهين لم يستحِ من التصريح بأن ما نهبه يساوي أذن جمل، ثم رأينا كيف شيدت أذن الجمل ثلاثة أبراج كبرى يراها من الجو المسافرإلى إسطنبول تقف شاهدة على فساده وخيانة الأمانة، في ذلك الزمن الذي كان يعد الفاسد فيه ذكيا وشاطرا، أما النزيه فهو بسيط وبلا مواهب. ذلك أنه لم يكن من المعتاد مراقبة المال العام، ومحاسبة المسؤولين الفاسدين، فأطلقوا أيديهم فيه، وصاروا يديرون المؤسسات التي يرأسونها بمنطق المستوطنات، فكل ما في المؤسسة يصبح ضمن ملكيتهم، فليس لأحد أيّا كان حق مساءلتهم! ولم يكن نهب الميزانيات وحده مؤشرًاعلى استبداد الرئيس بالمؤسسة، بل منهم من اعتبر كل أجهزة المؤسسة وموظفيها وخدماتها وعمالها وسياراتها، مسخّراً لخدمته وقضاء حوائجه وعائلته، حدّ صيانة بيته وحديقته وبناء استراحته، وحراسة المجمع العائلي الذي يسكنه، فكثيرًا ما تُشاهد سيارات مؤسسة حكومية كبرى فيها موظفون بملابس رسمية مرابطة عند بيت ذلك المسؤول، لا يحول دون وقوفها ليل ولا نهار، حرٌ ولا بردٌ! فعلامَ يدل هذا؟ أليس على غياب الحسّ الديني الذي يستشعر عظم الأمانة التي جعل الله خيانتها كخيانة الله ورسوله في قوله: (يَأيُهَا الَذِيْنَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ والرّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأنْتُم تَعْلَمُونَ)، كما جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم من آيات المنافق الذي "... إذا أؤتمن خان". فالإسلام حرَّم التعدي على أموال الأمة بغير حقّ، ولو كان شيئاً يسيرًا، روي عن النبي عليه السلام قوله: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا (إبرة) فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا (خيانة وسرقة) يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". تخيلوا مخيط الإبرة قياسًا على ما تفنن الفاسدون في نهبه من المال العام! وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديدًا في محاسبة من يتولى أمرًا من أمور المسلمين، فقد أرسل رجلاً يجمع له الصدقات من بني سليم، فلما رجع الرجل قال: (يا رسول الله هذا المال لكم، وهذا المال أُهدي إلي، فقال له: هلاّ جلست في بيت أبيك أو بيت أمك حتى تنظر ما يهدى إليك! ثم قام في الناس خطيباً وقال: يا أيها الناس ما بالنا نرسل الرجل يجمع الصدقات فيرجع قائلاً: هذا لكم وهذا أهديَ إليّ، هلّا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه، حتى ينظر ما يُهدى إليه)، أراد الرسول أن الرجل لو لم يكن مسؤولًا وبقي في بيت أهله لم يهدِ إليه أحد شيئا، مما يعني أنّ ما أهدي إليه حقٌ من حقوق المسلمين. فما بالنا بمن ينهب ما وضع تحت يديه من أموال عامة، لو لم يعين في منصبه لما حصل عليها، ولكل المواطنين نصيب منها! لهذا روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقق عليه"! والمشقة على الناس هنا يدخل فيها منع توظيفهم أو إلحاقهم بالجامعات أو علاجهم أو إسكانهم، وتقديم أبنائهم وأقاربهم عليهم. كما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين"، فهذا يدخل في مضارة الناس في طرقاتهم بالاستيلاء عليها، أو وضع ما يمنع المرور عبرها، كما يدخل فيها سلب أراضي الدولة بوضع اليد عليها، واستصدار صكوك تمليك بالرشى أو التزوير، وبيعها للناس بأسعار باهظة. إن حرمة المال العام أشدّ حرمة من المال الخاص؛ وذلك لأن المال الخاص يمكن أن تُسوى قضيته بإبراء الذمة من صاحبه، أمّا المال العام فلا تبرأ ذمته إلا من مُلاك ذلك المال وهم جميع المواطنين فهو ملك الأمة، وهو ما اصطلح على تسميته بمال الدولة، ويدخل فيه الأراضي البيضاء والشوارع والمرافق العامة؛ من مستشفيات ومدارس وحدائق وغيرها، ومن هنا تأتي خطورة الاستيلاء عليه، فالسارق له سارق للأمة لا لفرد بعينه، ومن يسرق الأمة وينهب ممتلكاتها كيف تكون صورته في الدنيا وعقوبته في الآخرة؟ من المفارقات المحزنة أنّ أحلام العامة، وخاصة البسطاء منهم، في سكن أو وظيفة أو علاج أو تعليم، تصادرها دوما أطماع الذين يتبنون منطق النار التي (كلما امتلأت قالت هل من مزيد)، أولئك الذين يهدرون أموال الوطن على أنفسهم وأبنائهم وأقاربهم، فلا يفرقون بين المال العام ومالهم الخاص، حيث يتداخلان تداخلًا عجيبًا، وكلما تعاظمت مسؤولياتهم وميزانيات مؤسساتهم، تلاشت معها المساحة الفاصلة بين العام والخاص! وذلك بلا ريب دليل على ضعف الوازع الديني، وعجز منظومة القيم التي تعارف عليها العقل، وأقرها الشرع عن إعادة تشكيل وعي أولئك الفاسدين، علاوة على غياب الحس الوطني الذي يعدّ الحفاظ على المال العام وصيانته جزءا من الوطنية والمسؤولية الحقة، فيتصرف بعضهم بما تمليه عليه نفسه المتضخمة بحب الذات والجشع، حدّ اعتبار مصلحته فوق مصالح الآخرين، وهي حالة من حالات التردي القيمي والنفسي؛ إذ تطغى الأنانية والتفريط بالمسؤولية، حتى يظن أن كل ما في عهدته من مال للدولة حق مشاع له ينهب منه كيفما أراد. لهذا فإنه لا يمكن التعويل على دين الفاسدين وضمائرهم ووطنيتهم دون أن يحكّم قانون المحاسبة والمساءلة الجميع، وعندها يصبح العقاب على الخطأ، والثواب على الصواب هما اللذان يُسيران دفة المجتمع. جاء في القرآن الكريم على لسان سليمان (مَاليَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبيْنَ، لأعَذّبَنَهُ عَذَابَاً شَدِيْدَاً أوْ لأذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأتِيَنِي بِسُلْطَان ٍ مُبِيْن ٍ) فهدد بعقاب الهدهد إذا لم يستطع تبرير غيابه؛ فالأمور لا تستقيم وتسلم من الشوائب والشبهات إذا لم يصحبها عقاب يُوقع على المخالف. مرّ علينا زمن لا يحاسب فيه المفسدون، ولا يشهّر بهم رأفة بأبنائهم وأسرهم، فهل يجب على الدولة أن تكون أكثر حرصًا عليهم من المفسد نفسه؟ لهذا كان تفعيل نظام محاكمة الوزراء -الذي صدر بالمرسوم الملكي رقم (88) وتاريخ 1380/9/22- مفرحًا لجميع المواطنين حيث عمل به لأول مرة منذ إصداره، وكان الأبرز في الأربعة عشر قرارًا ملكيًا في الأسبوع الماضي، فنزل بردًا وسلامًا على قلوبهم، لأنه سيكون رادعًا لكل مسؤول، كبيرًا كان أم صغيرًا، تسول له نفسه خيانة الثقة التي وضعها الملك فيه عندما وزره، أو ولّاه مسؤولية من المسؤوليات الوطنية. أما شباب قنوات التواصل الاجتماعي، فقد استنوا لأنفسهم سنة تمارس أقوى أشكال المراقبة العامة، بتتبع مخالفات بعض المسؤولين ونشرها على الملأ، فأصبحوا خير معين لهيئة مكافحة الفساد، في الوقت الذي تقاعس فيه بعض ممن أنيطت بهم هذه المسؤولية التي هي من صميم عملهم، إيثارًا للسلامة والدعة، وحفاظاً على مكتسبات يُخشوَن عدم تكرارها.