قمة خليجية- إيطالية في البحرين لترسيخ الشراكة    السعودية والبحرين توقعان 9 مذكرات تفاهم في عدد من المجالات    العراق تتغلب على البحرين بثنائية في كأس العرب    القبض على يمني في المدينة المنورة لترويجه مواد مخدرة    افتتاح متحف زايد الوطني في أبوظبي    الدفاع المدني يحتفي بيوم التطوع    «هيئة المراجعين الداخليين» تطلق أداة الذكاء الاصطناعي «سارا»    نقاط خدمة جديدة لحافلات المدينة    منال القحطاني تعيد الحياة لطفلة في لحظة حرجة    منتدى القطاع غير الربحي الدولي يبحث مستقبل الشفافية في العمل الخيري    لم يكن يعبأ بأن يلاحقه المصورون    إقحام أنفسنا معهم انتقاص لذواتنا    لجنة التنسيق السعودية الكويتية: الاتفاق على مبادرات مصانع المستقبل والتكامل في سلاسل الإمداد وقواعد المنشأ    تعليم الطائف يبرز ريادته في تمكين ذوي الإعاقة بفعاليات نوعية في يومهم العالمي    طالبان تؤكد أن أفغانستان لا صلة لها بمهاجمة الحرس الوطني بواشنطن    إثراء" يستعد لإطلاق حفل "أقرأ" الختامي في نسخته العاشرة.. الجمعة    مُحافظ الطائف يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمحافظة    أمير الشرقية يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمنطقة ورئيس وأعضاء جمعية الرحمة الطبية    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمنطقة ويدشّن وحدة المشاركة التطوعية    زراعة عسير: ضبط 760 كجم من الأسماك والدواجن غير الصالحة للاستهلاك الآدمي    أمانة جازان تواصل حملات تحسين المشهد الحضري في وسط البلد والشامية    النفط يستقر وسط مخاوف "جيوسياسية على الإمدادات"    الذهب يتراجع مع صعود عوائد السندات الأميركية    خلال معرض الطيران العام 2025 الوعلان القابضة تستعرض خدماتها المتنوعة في قطاعي الطيران والسيارات    القضاء على سبعة مسلحين شمال غرب باكستان    ضميرية عسيرية حول المملكة وباكستان    الطلاق الصامت.. انفصال بلا أوراق يُربك الأسرة    المملكة تقفز بنسبة المناطق البحرية المحمية إلى 61.1 %    أمير الرياض يشهد توقيع اتفاقيات بين "الموارد البشرية" وعدد من الجهات    توطين تقنيات التصنيع الذكي    المملكة الثالث عالمياً في نماذج الذكاء الاصطناعي    ألقى بابنته من الشرفة لرفضها فسخ خطبتها    «الجوازات»: الهوية الرقمية لا تستخدم في عبور منفذ سلوى    الهلال يطلب إعفاء بونو من كأس أفريقيا.. ونونيز يريد الرحيل    اندثار المواهب والحلول لإعادة اكتشافها وصقلها    مجرد (شو) !!    قبل عرضها على سبيستون    أضخم منصة عالمية للاحتفاء بالحرف اليدوية.. «الثقافية» تمثل السعودية بمعرض أرتيجانو آن فييرا    القيادة تهنئ رئيس الإمارات بذكرى اليوم الوطني لبلاده    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    خطوة روسية – أمريكية نحو حل سلمي للأزمة الأوكرانية    أكد أن مزاعم «الدعم السريع» وهدنته مناورة سياسة.. الجيش السوداني يصد هجوماً على «بابنوسة»    الحوثي يعدم المدنيين بتهم «مزيفة»    جودة النظام الصحي تسبق مهارة الطبيب    شبه القراءة بالأكل    ألونسو: أهمية مبابي أكبر من أهدافه    السيتي ينجو من انتفاضة فولهام ويقلص الفارق مع آرسنال إلى نقطتين فقط    الجيش الألماني يعلن تعرّض شحنة ذخيرة للسرقة    نور الرياض    منازل نجران.. تراث أصيل    في جزيرة شورى وزيرا الرياضة والإعلام والإعلاميون.. أمرهم شورى!    3 ملايين مخطوطة تتصدر حديث ثلوثية الحميد    انطلاق فعاليات القمة الخامسة لرعاية العيون بمشاركة نخبة من الكادر الطبي    السفراء الجدد يؤدون القسم أمام ولي العهد    رجل الدولة والعلم والخلق الدكتور محمد العقلاء    "الشؤون الإسلامية" تنفذ أكثر من 47 ألف جولة رقابية في المدينة المنورة    الكتابة توثق عقد الزواج عند عجز الولي عن النطق    القيادة تعزي الرئيس الإندونيسي في ضحايا الفيضانات والانزلاقات الأرضية ببلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السرد والأخلاق
نشر في الرياض يوم 25 - 07 - 1438


د. عبدالله إبراهيم
لفتتني "آذر نفيسي" في كتابها "جمهورية الخيال" لأمر الصلة بين السرد والأخلاق، بقولها "لكلّ رواية مسرح أحداث، لكنّ الرواية الأميركية فريدة في مفهومها المتعلّق بالمشهد بوصفه جزءاً متمّماً من كونها الأخلاقي". طرحت هذه الملاحظة أمراً مهماً في الكتابة؛ حيث تصبح المشاهد السردية جزءاً من عالم أخلاقي يستمدّ شرعيته من مجتمع يؤمن به، وفيما ذهبت "نفيسي" إلى ربط الموضوع بالكاتب "مارك توين"، فقد وجدتني أتوسّع به عند آخرين، أولهم "وليم فولكنر" الذي شيّد عالماً سردياً طرح فيه نظام القيم السائد في الجنوب الأميركي بُعيد الحرب الأهلية، ومطلع القرن العشرين، وسمّاه "يوكناباتوفا".
ليس ينبغي البحث في الخريطة عن مقاطعة "يوكناباتوفا"، فجغرافيا العالم الافتراضي غير جغرافيا العالم الحقيقي، لكن النظام الأخلاقي في هذا المكان يكاد يطابق النظام الأخلاقي في الجنوب الأميركي الذي ترعرع فولكنر فيه، وله امتداد أسري عريق في ذلك المكان، فقد انخرطت عائلته في صنع أطراف من تاريخه، ولم ينقطع هو عن مجمل التقاليد الاجتماعية السائدة فيه، بل أدرج شيئاً من ذلك في تضاعيف رواياته. وليس المهم دسّ وقائع التاريخ في روايات فولكنر إنما الوقوف على التغيرات القيمية بسبب الحداثة الاجتماعية التي طرقت تلك المنطقة بعد الحرب الأهلية، وكيفية تلقّي مجتمع "يوكناباتوفا" لها؛ فالأجيال الأولى في رواياته عاندت التغيير، وازدرت الخدوش التي لحقت بنظام أخلاقي راسخ، غير أن الامتعاض راح يتخفّف حتى كاد يختفي في الأجيال الجديدة. شرع الكاتب في رسم ملامح "يوكناباتوفا" برواية "سارتوريس" التي أصدرها في عام 1928، ومضى يؤثثها بالأحداث والشخصيات، ويقترض من ذاكرته ما يناسب شروط المكان الافتراضي الذي نما من غير تعثر طوال ربع قرن بعد ذلك، فشخصياته مزروعة في قلب النظام الأخلاقي للجنوب الأميركي، وفيه تشكّلت تصوّراتها عن نفسها وعن العالم، ولم يراودها فضول لاستبداله بنظام آخر، فالسلالة التي رسم تعاقب أجيالها منذ البدء حتى المآل تشبّعت بذلك النظام، وأخذت به، غير أنها رزحت تحت ثقل ماض وهي تحاول تكييف أحوالها الفردية في ضوء أعرافه.
من الصحيح أن فولكنر توسّع في رسم ذلك العالم في "الصخب والعنف" و"فيما كنت أحتضر" و"ضوء في آب" لكنه أحاط بأمره في ثلاثيته الكبيرة التي استغرقته خلال العقدين الأخيرين من حياته، وهي "القرية" و"المدينة" و"البيت"، وفيها اكتمل عالم "يوكناباتوفا"، وشقّت عائلة "سنوبس" طريقها في مجتمع متحوّل بدأ يغادر ماضيه بصعاب كثيرة، وأولها الحنين لماض راح ينأى ببطء، ولهذه الصيرورة من النمو الاجتماعي داخل عالم افتراضي ما يناظرها عند نجيب محفوظ الذي مهّد للحارة باعتبارها مكاناً لأحداث رواياته في "القاهرة الجديدة" و"زقاق المدق" و"خان الخليلي" ثم اكتملت ملامحها في "الثلاثية"، واستقامت، بعد ذلك، مسرحاً رمزياً شاملاً في "أولاد حارتنا" و"ملحمة الحرافيش"، وفيها ارتسمت ملامح الكون الأخلاقي على خلفية من رؤية مأساوية للعالم.
لم يؤرخ محفوظ لماضي الحارة المصرية إنما استكنه نظاماً أخلاقياً له صلة بالإيقاع التقليدي لمجتمع يرى في تحولات الحداثة تفريطاً في قيم عزيزة عليه، هي القيم الأبوية، فحينما تفككت أواصر النظام الأخلاقي لعائلة "أحمد عبد الجواد" في الثلاثية، انبثقت الإيديولوجيات الماركسية والإسلامية، ولاذت الأجيال الجديدة بالوظائف الحكومية، وانفرط عقد الذكور، وعهد للإناث صيانة السلالة التي ضربها التهجين الأخلاقي والفكري. ولم يخل الأمر في سلالة بدأت تتخلى عن الناظم الأخلاقي من مظاهر التعهر، والشذوذ الجنسي، والشكوك الدينية، والتناقضات الإيديولوجية، فقد هزّ كل ذلك أركان العالم الراكد الذي ارتسمت ملامحه في أول الأمر باعتباره مستوفياً لشروط الحياة السليمة في الحارة، فكلما جرى تحويل في نظام القيم سقط الأفراد في أفعال خاطئة لا يقع قبولها باعتبارها مآثر بل نزوات؛ لأن الكون الأخلاقي جهّز الشخصيات برؤاها للعالم، وكفاها مشقّة الكفاح الفردي، حينما أدرجها في قطيع لا تتمايز فيه عن بعضها بل تتناسخ بهويات متماثلة، وما أن تشقّ عصا الطاعة، بقيم فردية خاصة بها، إلا وتسقط في سلسلة من الأخطاء التي توجب عقاباً أخلاقياً أقلّه وصمها بالمروق، والسقوط في الضلالة، فتفقد شرعية انتمائها إلى السلالة، وتُفرد باعتبارها نتوءات ينبغي استئصالها. لم يكتف محفوظ بخلع هذا النظام على أحداث الثلاثية، إنما واصله في أولاد حارتنا، وملحمة الحرافيش، اللتين دفع بشخصياتهما الكبرى إلى الارتقاء إلى درجة النماذج الحاملة لذلك النظام القيمي، والخروج عليه بدا وكأنه خروج على طاعة الله في الأولى، وأعراف السلالة في الثانية.
لم يقتصر الأمر على فولكنر ومحفوظ، فقد جعل الكاتب الصومالي "نور الدين فارح " من هضبة "أوغادين" المحاذية لأثيوبيا، مسرحًا خيالياً لثلاثيته "دماء في الشمس". وجعل من النزاعات الأهلية فيها مؤثراً فاعلاً في حركة الشخصيات، وقيمها التقليدية، فقاعدة الثلاثية كانت النزاع الدموي بين الصومال وأثيوبيا حول إقليم أوغادين، وهو مسقط رأس فارح، ولم تبخل الرواية في رمي الأحداث الاجتماعية والسياسية والعسكرية في إطار حكاية مسترسلة بطبقات سردية متداخلة هدفت إلى إثارة موضوع الهوية القومية لأوغادين. وقد ترك النزاع حول الإقليم أثره في أحوال الشخصيات، وبخاصة ما له صلة بالدين، والجنس، والمرأة، والهوية، وعدم نضوب همم المجتمع في خوض حروب لا نهاية لها. ولعل غاية "فارح" من ذلك المزيج المتنوع الموارد للمادة السردية هو إثارة موضوع الهوية الصومالية لأوغادين، والدفاع عن أهلها باعتبارهم جماعة متماسكة غير أن للحرب نواميسها؛ ففيما كان كثير من الشخصيات تتعايش في إقليم واحد ضربت الحروب المحلية، والتدخلات الاستعمارية، ضربتها في تقطيع الأواصر الأخلاقية في أوغادين، وأُجبرت الشخصيات على إعادة تعريف نفسها في ضوء انقسامات سياسية لم تكن لها قيمة في الأجيال السابقة، فحلت الكراهية محل الألفة، وقد اجتمعت هذه الشذرات المتناثرة من الأفكار والقضايا والهموم حول شخصيات تتفاخر بهويتها القومية الصومالية الإفريقية، فلا ترى سواها هوية جديرة بالاعتبار في القرن الأفريقي.
ولم يصرف نور الدين فارح النظر عمّا أحاق بالصومال من كوراث بسبب الحروب الأهلية، فالشخصيات الطامعة بهوية جامعة أمست نهباً لهويات متعدّدة، وقد وقف على الهوية القائمة على أواصر الدم الذي يتّخذ لديه دلالة الاستمرار في الحياة القبلية. ولا يبدو البحث عن هوية جامعة مهماً بذاته بل بما يتأدّى عنه، فالمفهوم الذي وجد نفسه منتجاً للعنف ألحق ضرراً بالنساء اللواتي تعرّضن للمهانة، وبالأفراد الذين تقاسمتهم الأهواء، وبالأخلاق التي تردّت فما عادت تدرأ الشرّ والعنف والانقسام الاجتماعي، وقد تعرضت الشخصيات للأذى بسبب هوياتها، وبخاصة النساء اللواتي أمسين موضوعاً للعنف، ومنه الاغتصاب، وخيّم القلق على الأفراد تعبيراً عن هويات مزعزعة في مجتمع تكاثر انقسامه بدعاوى الهويات العرقية والدينية والثقافية. وفي الجزء الأخير من الثلاثية توّج الكاتب بحثه السردي في استكشاف التفكك الاجتماعي والأخلاقي جرّاء هوس البحث عن الأصول القبلية القائمة على قاعدة قرابة الدم، فكلما أمعنت الجماعة فى الانكفاء على هوية ضيقة تأدى عن ذلك تفكيك الهوية الجامعة، فيندلع النزاع على قاعدة من أوهام الهوية، وقد غذّى فارح ثلاثيته بالأساطير الأفريقية، والاغتصاب، والتطرف، والفقر، والنزوح، والتشتت، ونزوع الأفراد إلى البحث عن أصولهم، وصولاً إلى الفوضى.
وجدت شيئاً كثيراً مما مرّ ذكره في ثلاثية الكاتب الجزائري محمد ديب، وهي "الدار الكبيرة" و"الحريق" و"النول" التي صدرت بالفرنسية في منتصف القرن العشرين، وفيها صور المؤلف الأحوال العامة في غرب الجزائر في ظل الاستعمار الفرنسي، وما ترتب عليه من تمزيق اجتماعي وأسري، ولم يغب الاهتمام بالمنحى الأخلاقي للعالم الافتراضي الذي تتقدم فيه الأحداث، وتتوسع الأماكن من الأرياف إلى المدن، ومن الزراعة إلى الصناعة، وترسم ملاح مقاومة الاستعمار الفرنسي، ودوره في تهشيم الأواصر الجامعة للمجتمع الجزائري.
وبعيداً عن النظام الثلاثي في السرد، فنثر القيم الأخلاقية باعتبارها إطاراً ناظماً لسلوك الشخصيات بين ممتثلة له وخارجة عليه نجدها في "الدون الهادئ" لشولوخوف، و"جسر على نهر درينا" لإيفو أندريتش، و"عائلة بودنبروك" لتوماس مان، وفي معظم أعمال كازانتزاكي، وفؤاد التكرلي، ويشار كمال، ودوستويفسكي، فالمغذّي الأخلاقي يطبع الشخصية بأفعال ترسم هوية المجتمع الذي تنتمي إليه، فخروجها عليه خروج على ذلك النظام، وامتثالها له يضفي عليها سلامة وقبولاً.
آذر نفيسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.