معارفنا وخبراتنا وتجاربنا تساهم (بالمعنى الحرفي) في تشكيل أدمغتنا.. حين تتعلم شيئاً جديداً تتشكل بين خلايا دماغك روابط إضافية وطرق جديدة.. تتفرع منها أغصان عصبية ترفع نسبة التواصل وتبادل المعلومات وتجعلك أكثر فعالية في مجال عملك (وبطريقة لا تلاحظ في دماغ طفل لا يقل دماغه عنك حجماً).. فدماغ الطفل بمثابة صفحة بيضاء أو كمبيوتر فارغ، في حين يمتلئ دماغ البالغ بروابط عصبية تشكلها معارفه وتجاربه وخبراته السابقة.. من الخطأ أن تصف أحدهم بأن دماغه كبير لأن حجم الدماغ ليس له علاقة بالذكاء (وإلا كانت نساء الصين أغبى البشر).. هناك عباقرة مثل أنشتاين وديفنشي وفارادي كانوا يملكون جماجم صغيرة، مقابل معوقين منذ الولادة يملكون جماجم كبيرة.. العبرة ليست في حجم الدماغ بل في ارتفاع نسبة الترابط بين خلاياه العصبية وكثرة الأخاديد الموجودة فوق سطحه (وتحديداً القشرة الرمادية)... هناك دراسة نشرتها مجلة ناشيونال جيوجرافيك تفيد بأن سائقي التكاسي في لندن يملكون (في أدمغتهم) منطقة أكثر فعالية بمعالجة الخرائط والصور البصرية. فحصولهم على ترخيص العمل يتطلب دراسة الخرائط لمدة عامين وحفظ 25000 شارع و20000 معلم سياحي، ثم تأتي بعد ذلك سنوات طويلة من الممارسة تؤدي لتطور هذا العضو أكثر من بقية البشر (كما أثبتت صور الرنين المغناطيسي)... ونفس الظاهرة لوحظت في أدمغة الموسيقيين والعطارين وخبراء النبيذ القادرين على تمييز أدق النغمات والروائح ومستويات الحموضة (بفضل تطور الجزء الخاص بحاسة الصوت والشم والتذوق في الدماغ).. ولو تأملت مهنة كل إنسان لوجدته يملك حاسة مرهفة ومتطورة ترتبط بطبيعة المهنة ذاتها (فأنا مثلاً أعرف بائع مجوهرات يمكنه تمييز عيار الذهب بمجرد سماع صوت الأسوارة حين يطرقها بأظفره).. كل هذه الدلائل تجعلني على قناعة بأن التجارب والمعارف والخبرات التي نبدأ بها حياتنا، لا تساهم فقط في صياغة شخصياتنا وأفكارنا ونظرتنا للحياة؛ بل وأيضا في تركيب أدمغتنا وطريقة بنائها وتفرع الخلايا العصبية فيها.. ليس أدل على ذلك من ظاهرة التحجر الذهني التي تمنع الكبار من اتقان اللغات الأجنبية أو تقبل أفكار تعارض ما عرفوه منذ الطفولة (وكتبت عن ذلك مقالاً بعنوان: كيف تتحجر الأفكار أرجو أن تبحث عنه في جوجل)... ... أيها السادة؛ ليس لدي أدنى شك بأن أجهزة الرنين المغناطيسي ستتمكن قريباً من تحديد مهن الناس وخبراتهم من خلال حشر رؤوسهم تحت ماكينة التصوير!!