د. عبدالمحسن الحربي أعتقد أن الفكرة نادراً بعد ما تولد وترى النور ويشتد عودها أن تموت, بل تعمر طويلاً طويلاً إن نجت من مهلكات التكوين, وكلما حازت الفكرة القدر الأوفى من ركائز الفكرة الباقية الثلاث: الحق والخير والجمال كلما كانت محصنة من الفناء وتجلب النماء والأمان لمن يؤمن بها. ولربما طال أمد بعض الأفكار وهي لا تحوي قدراً كافياً من هذه الركائز لكن العصبيات أو الجهل أو المطامع تدعم بقاءها وتطيل أمدها وتضخ فيها الحياة. وربما تسود الفكرة وتهيمن ويؤمن بها الملايين من البشر ويدفعون أرواحهم ثمناً لها, أو تنزوي وتضمر فلا يتعاطاها إلا الندرة من الناس, فيصيبها الهزال وتدخل في كمون وبيات طويل, ولكنها لا تموت. تأمل عالم الأفكار تجد أفكاراً مازالت باقية تجاوز عمرها مئات السنين ومازال هناك من يعتقدها ويؤمن بها وينادي بإيمان عميق بأنها المخلص, وهي ضاربة في أغوار التاريخ قدماً ومغرقة في أعماق الزمن, تظن أن التراب قد أهيل عليها فإذا بها تسجل حضورها وتهب واقفة على قدميها وذلك عندما تأمن من الخوف أو تواتيها الفرصة لهذا الحضور. عندما تُحارب الفكرة وتضرب في سويدائها تمارس الاحتيال فتبدأ بالمواجهة الشرسة ومحاولة الهيمنة أو البقاء, فإن شعرت بالهزيمة تتوارى أولاً ثم تعيد لملمة نفسها وترمم العطب الذي أصابها لتعود إلى الوجود من جديد وربما عادت هي نفسها لكن بشكل جديد. يمكن للمجتمع أن يروض الفكرة ثم يستأنسها عندما تتوحش كما يفعل السائس مع الكواسر والوحوش المفترسة, فيبدأ بنزع السم منها أو تقليم مخالبها عبر تحويلها أو تحويرها أو استيعابها واحتوائها أو مصادمتها, لكن أصل الفكرة سيبقى والحذر كل الحذر؛ فالأفكار التي تتعرض للخيانة تنتقم لنفسها - بحسب رأي مالك بن نبي - وهذا يجعلنا نتعامل مع الأفكار أنها عصية على الاستئصال لكنها تتشكل بطرق متعددة عندما تشعر بالتهديد وتبدأ رحلة جديدة من التبدل لأن الأفكار كما قال علي الوردي كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. بعض الأفكار تتوالد كما القنبلة العنقودية ليتولد منها فكرة أخرى أشد قتاماً أو أكثر جمالاً. الفكرة الشيوعية مثلاً في منظورنا القريب عاشت سبعين عاماً كدولة (وقد تنبأ العقاد أن عمرها لن يتجاوز سبعين عاماً), لكنها مازالت باقية كأيدولوجيا, وستبقى ما لم تقوَ الأفكار الأخرى المناهضة لها, بل ربما تعود من جديد إلى الصدارة في الحضور والهيمنة. للأفكار سطوة وهيمنة, وقوة تدميرية رهيبة وتلبس صاحبها بدلاً من أن يلبسها وإلا ما الذي يجعل شاباً في ريعان الشباب يفجر نفسه أو يرمي بنفسه في غيابات الأخطار المتظلمة! سطوة الفكرة. ما الذي دعا تشي جيفارا لترك كوبا حيث السلطة والمكانة والرغبات والتوجه إلى بوليفيا؟ هيمنة الفكرة. وما الذي يجعل المفحط بسيارته يتلاعب بعمره وصحته في جنون ظاهر! أظنها كذلك هيمنة الفكرة وسطوتها. الخلاف الشهير في أصل كل حركة في العالم يقوم بها الإنسان, باعثها والدافع لها هل هو الحب أم الخوف؟ (الخوف من الفقر, الخوف من الألم, الخوف من الوحدة, الخوف من المرض, .. ) أو: (حب تحقيق الذات, حب المال, حب السلطة, حب الجاه, حب الحياة.. ) هو مدخل لنا للولوج إلى عالم الأفكار والنظر في أعماقها على ألا نحفل كثيراً بالأحداث والتفاصيل, وإنما نركز في التحليل لما وراء هذه المواقف والأحداث.. ما الحل؟ الحل في نظري نشر الفكرة الصحيحة القوية ودعمها والتمكين لها لتزاحم هذه الأفكار الشريرة وتكثيف هذا النشر وتقريبها للناس ببساطة من غير تعقيد, وإزالة العوائق التي تعترض انسيابها في المجتمع البشري, وعدم الاشتغال بالأفكار السيئة والشريرة لكثرتها إلا عندما تشكل خطراً على المجتمعات. عندما يكون بالعالم العربي مراكز دراسات وأبحاث مختصة بعالم الأفكار تعمل على قراءة الأفكار الكبرى المهيمنة وتفكيكها وفهرستها وفرزها وتصنيفها ودراسة النشأة والتكوين ورسم خطها البياني صعوداً أو نزولاً وبموضوعية, فهذا حتماً سيكون مبشراً بالوعي المسؤول في إدارة مجتمعاتنا.