ما تحاول أن تقدمه جائزة الفوزان ليس مجرد «توزيع جوائز»، بل هي صناعة وعي وبناء تقاليد عمرانية «معاصرة» لعمارة المسجد، وهذا الأمر كان بحاجة إلى «خلق» رابطة تجمع المهتمين في العالم أجمع بالعمارة المسجدية، بكل ما تحمله من تاريخ ممتد لأكثر من 1400 عام.. قبل أكثر من عقدين وبالتحديد عام 1995م كتبت مقالا عنونته "المسجد: الرمز والمعنى" ونشر في مجلة "الثقافية" التي تصدرها الملحقية الثقافية السعودية في لندن. لقد حاز المقال على اهتمام الملحق الثقافي في ذلك الوقت الاستاذ عبدالله الناصر وأتصل بي شخصيا يهنئني على فكرة المقال. بصراحة كنت متفاجئاً من الحفاوة التي ابداها ملحقنا الثقافي، وقد كنت في بداية دراستي للدكتوراة، لكن المفاجأة اختفت عندما عرفت أنه رجل ذو ثقافة واسعة. ما حدث في ذلك الوقت جعلني أهتم وأقترب أكثر من عمارة المسجد المعاصرة، كحدث رمزي له علاقة وثيقة بحياة الناس، وتصورهم عن المدينة. أذكر أنني قلت للملحق إنني كتبت المقال بدافع الاشتياق، فلم أتعود أن أعيش في مدينة لا يصدح فيها الأذان وتشق المآذن فيها عنان السماء، فقال لي "معك حق"، المسجد ليس مكاناً للعبادة فقط بل هو خليط روحي وثقافي واجتماعي وجمالي ينفخ الحياة في المكان. هذا الخليط تشكل في لا وعينا وهو أول ما نفتقده عندما تختفي المآذن من أفق عيوننا. تذكرت هذه الحكاية هذه الأيام ونحن نقترب من الاحتفاء بالفائزين في الدورة الثانية لجائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد، التي ستوزع يوم غد في منطقة مكةالمكرمة برعاية من أميرها. المسألة هنا ليست جائزة في العمارة، أو جائزة للمساجد، إنها رسالة موجهة للعالم، كون الجائزة عالمية، وتهتم بالمسجد في كل مكان في العالم، تعيد إلى أذهانهم تلك الروح المتوقدة التي يطلقها المسجد في كل مكان يوجد فيه. رسالة البساطة التي أطلقها خير البشر، صلى الله عليه وسلم، الذي قال "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". مجرد قطعة أرض تصنع مسجدا، وتبني علاقة أبدية مع المكان. لكن الرسالة الأكبر هي هذا التنوع الخلاق الذي أندمجت فيه العرقيات، والأمكنة في كل مكان لتصنع هويات بصرية متعددة، تجتمع كلها على وظيفة واحدة. بصراحة أول مرة أنتبه إلى أن عمارة المسجد تتحدى مقولة المعماري "لويس سوليفان": "الشكل ينبع الوظيفة"، فرغم ثبات الوظيفة تعددت أشكال العمارة المسجدية بشكل مدهش. في المغرب العربي كنت أسمع من يقول "المئذنة المالكية"، وقد أوقعني هذا الأمر في حيرة، فهل هناك مئذنة مالكية، وأخرى حنفية، وشافعية، وحنبلية أم ماذا؟ وعندما سألت أحد الأصدقاء عن هذا الأمر، قال لي إن المئذنة ذات القاعدة المربعة تسمى في شمال أفريقيا بالمالكية، وهو المذهب الفقهي السائد هناك لتفريقها عن "العثمانية" الاسطوانية أو ذات الثمانية أضلاع، وهو مصطلح تطور في القرون الأخيرة. لقد جعلتني هذه الملاحظة أرى التأثير العميق للمسجد على نمط الحياة، وعلى المفردات اللغوية، وأسلوب التعبير عن الأشكال الرمزية، وكيف أن كل منطقة في العالم تفاعلت مع المسجد وعمارته، وشكلت أنماطاً رمزية خاصة بها. ومع ذلك كنت حزينا لإدراكي لهذا التأثير، لأن عمارة المسجد لم تعط حقها من البحث والتقصي، ولا يكاد يوجد إلا بضع دراسات عن المساجد التاريخية المعروفة. ما تحاول أن تقدمه جائزة الفوزان ليس مجرد "توزيع جوائز"، بل هي صناعة وعي وبناء تقاليد عمرانية "معاصرة" لعمارة المسجد، وهذا الأمر كان بحاجة إلى "خلق" رابطة تجمع المهتمين في العالم أجمع بالعمارة المسجدية، بكل ما تحمله من تاريخ ممتد لأكثر من 1400 عام، ومن تجارب وليدة في دول لم تعرف المسجد في يوم، وهي تتعرف عليه بتثاقل أحيانا، وبلهفة أحيانا أخرى. نحن بحاجة إلى مؤسسة رصينة ومحايدة، تخرج عن ثقافة توزيع الجوائز بالمجان، وبمزاجية إلى بناء مؤسسي ثقافي وتقني يغوص في تفاصيل المسجد، وتحولاته المعمارية، وتجعلنا نركز بشكل أساسي على اكتشاف الإشكالات التي يعاني منها المسجد في وقتنا الراهن. مؤسسة الجائزة نجحت في لفت الانتباه لعمارة المسجد على مستوى المتخصصين والمهتمين، لأنها تحاول أن تستعيد ما فقد من المسجد على المستوى الثقافي والاجتماعي، وتسترد بقايا البساطة التي تخفت مجبرة تحت وطأة الرمزية والجمالية المفرطة، ولكن تبقى الخطوات المستقبلية التي يجب أن تتجاوز العمل العاطفي إلى العقلاني، حتى تكون النتائج مقنعة ومقبولة وهذا ما نتوقع أن يحدث بإذن الله.