في أعمال فناننا الكبير (طه صبان) نتفق تماماً مع رأي المفكر المجري: (جورج لوكاتش György Lukács) بأن الجمال في الفن يمثل شكلاً استطيقياً يتعلق بتجربة الفنان وهدفه وهذا هو ما نعنيه عند دراسة أعماله في تناوله للإنسان والمكان باعتبارهما عنصرين مهمين في التراث السعودي الضارب في الحضارة وعظمة التاريخ بالفنون الإسلامية التي صنعت هذا المجد الفني التليد، وعندما يستلهم أساطيره عن الحارة في البناء المعماري يهيمن على أعماله العنصر البشري فينصرف إلى المكان والإنسان كعنصرين مهمين لأي منجز للفنان وهو يستدعي ذكرياته عن الحارة بكل ما فيها عن الصيادين والمنجدين والسقايين وصبيان الحارة بألعابهم التقليدية وصباياها وهي تتباهى بلباسها الشعبي التقليدي بجمالها الأخاذ. الانتقال المدهش بين الواقع والخيال المشاهد في آخر أعماله عن عمارة المسجد الحرام في حقبه ماضية يستدعيها بذاكرته عن الخيام التي تحيط به لإيواء ضيوف الرحمن والمباني العتيقة بتراثها المعماري المألوف آنذاك معكوسًا عليها زرقة السماء الصافية وبهاء وقدسية المكان وكأنه يتأمل.. أين كنا وكيف أصبحنا.. تلك الفسحة بين الماضي والحاضر اعتمد عليها الصبّان في صياغة منجزه الفني ليمنح فرشاته المزيد من الحوار بين الكتلة والفراغ واللون دون الارتماء في أحضان مدرسة بعينها قد تعيقه عن البوح باسرار المكان لتشكل حراكاً بندولياً بين الزمان والمكان وتمنح المتلقي انطباعاً أوليا تتفتح معه الأفق.. وتطرب له الخواطر.. وتتدفق معه المشاعر.. وتلتهب به الأحاسيس.. وتطيب لأجله النفوس.. وتهيم لعشقه القلوب.. بحثاً عن المزيد من الاستمتاع والفريد في الطرح والإبداع. مسيرة الفنان (طه صبّان) المضيئة والحافلة بالمنجزات.. لا نلق الضوء فيها ونُجهد أنفسنا فقط في شرح أعماله دون الخوض في شخصيته التي ألهبت مشاعر العديد من النقاد التشكيليين وصناع الحرف في تناولها لتكون نبراساً لشباب الفنانين المعاصرين .. فأعماله ماثلة أمام المشاهد يراها كما يشاء ولكل منهم أدوات يحكم بها على تجربة الفنان من وجهة نظره الخاصة. في التجارب الإبداعية الأخيرة لمسيرته تراه يحوم كالنحلة حول مسطح اللوحة بحيوية وشباب، وهو من أكثر الفنانين المحدثين جرأة وقدرة على التجريب واستنطاق الخامة وتقنيتها وأكثر انفتاحاً على تجارب الآخرين وقد عصر في أعماله الأخيرة خلاصة تجاربة الفنية وطاقاته الوجدانية التي ما زالت تميزه عن الآخرين وفناني جيله فمنحته الريادة.. مستلهماً فيها أساطير الحارة الحجازية برغم سطوة التطور الحضاري التي جعلت مكةالمكرمة الآن تسير نحو «العالم الأول» بجمالها المعماري الحديث.. ألا إن خيالاته أبت إلا أن تحتضن الذاكرة الجمعية لديه وتؤرشف للماضي التليد برواشينه ومشربياته وأبوابه المشرّعة وعناق المآذن وشموخ الأهلة ذات الطابع الحجازي الأصيل.. كما وإنه لايؤمن كثيراً في العديد من أعماله بالطبيعة الصامتة.. فأينما وجد المكان وجد الإنسان في أي عصر وأي زمان، ولايميل مطلقاً للتناقضات علي مسطح اللوحة كبناء تشكيلي متكامل مما خلق لديه صراعاً قوياً بين إرادة الإعداد ودافع الارتجال ومقتضيات الأمانة الكلاسيكية في الطرح وضغط المزاج الانحرافي مما يعود به إلى الفطرة في الابتكار والبناء. لقد سجل الفنان والإنسان (طه صبان) أجمل لحظات الفرح والمرح وحميمية التلاقى بين الإنسان والمكان فزادت إبداعاً ووهجاً وتألقاً وبريقاً مما شكلت فترة من أهم فترات حياته الفنية وصقل تجربته فشهدت على بزوغ نجمه في عالم الفن السعودي والعربي المعاصر بإنجازات تسعة عشر معرضاً فردياً بدأها من مدينة كولشيستر عام 1975م وأتبعه بمعرض آخر في مدينة "جلاسكو" 1976 م ببريطانيا وهى بداية أهلته مبكراً لمشاركات جادة في محافل فنية وبيناليات عالمية حصد فيها العديد من الجوائز وشهادات التقدير وحفلات التكريم لمشوار فني حافل وعطاء مستمر. ولا يزال إلى الآن يبرهن على مقدرته كفنان عابر للمحيطات بفنه.. وهو يغازل الحضارة من رواشين التراث.. * فنان وناقد طه الصبان رؤية - طلعت عبدالعزيز*