إن كان تشومسكي يجعل من تاريخ الولاياتالمتحدة 500 عام من الغزو الاستعماري، فإن المخرج الأميركي مايكل مور في فيلمه الأخير (الغزو القادم أين) يقترح على الإمبراطورية الامبريالية الأميركية التي يحتشد تاريخها بحروب الهيمنة، أو تمويل حروب أو انقلابات بالنيابة، مفهوماً آخر للغزو. مايكل مور هو ابن لولاية ميتشغن الصناعية، ولد عام 1954 ابناً لأحد عمال مصانع السيارات، وشهد صباه ويفاعته فصولاً متعددة من الصراعات بين العمال، وجَور أصحاب رأس المال. مخرج سينمائي، وكاتب سيناريو، وناشط حقوقي، استطاع أن يصنع له بصمة مميزة في صناعة الأفلام الأميركية، ويفوز بعدة جوائز منها الأوسكار. يتبنى مور في أفلامه قضايا العدالة الاجتماعية، وينتصر للقيم الإنسانية، ولحقوق النساء والأقليات، مناهضاً الفروقات الطبقية، والامتيازات الاقتصادية الجائرة التي يوفرها النظام الرأسمالي للنخب، على حساب هضم حقوق بقية شرائح المجتمع. مايكل مور رغم أنه يغرد خارج سرب الإعلام الأميركي، إلا أن هذا لم يقذفه إلى الأطراف، ويحجبه عن الضوء، فكتابه (الرجال البيض الأغبياء) الذي نشره عام 2000 ظل على قوائم الأكثر توزيعاً لفترات طويلة، بينما أفلامه تحظى بطوابير طويلة عند شباك التذاكر. فيلمه الأخير، أين الغزو القادم؟ لم يغادر أجواء مور، لا في طبيعة المواضيع المطروحة، أو القوالب الفنية الساخرة التي يوظف رسالته داخلها، فليس هناك الكثير من التعقيد الفني، أو الصنعة الاحترافية، فتبدو لقطات الفيلم كأنها حوار بسيط يديره رجل شارع عادي مع العالم حوله، ليبرز مفارقات اللا عدالة. حيث يشير في مقدمة الفيلم بأن أميركا بجيوشها الجرارة، منذ الحرب العالمية الثانية لم تنتصر في أي حرب خاضتها، وإذا انتصرت في الظاهر، ولكن على حساب المزيد من الدمار وصناعة التوحش، فيقترح عندها على قيادات الجيش الأميركي، بأنه سيغزو العالم، وسيعود لأميركا بأفضل الغنائم. فيعود من إيطاليا بنظام وظيفي إنساني محتشد بالإجازات، ومن فرنسا بنظام غذائي يتقاطع مع الطعام السريع السيئ في الولاياتالمتحدة، ومن فنلندا بنظام تعليمي جيد، وهكذا يطوف عدداً من البلدان، قبل أن يعود لموطنه، ويكتشف بأن جميع هذه التشريعات موجودة ضمن الدستور الأميركي لكنهم عاجزون عن تطبيقها. الفيلم هو امتداد لمشروع مايكل مور، وخطابه الإنساني المناهض لتوحش رأس المال، عبر قوالب ساخرة ومفارقات مضحكة، تستحق ساعتين من وقتنا.