حظيت قضية التطور السكاني باهتمام علمي ملحوظ، منذ عشرينيات القرن العشرين، وصدرت معظم الدراسات الكلاسيكية في السنوات التالية لمنتصف القرن ذاته، وخاصة في "ثورة الثمانينيات"، التي بدت مدفوعة بكم هائل من التحولات الكونية. تركزت الدراسات الأولى على العلاقة بين السكان والموارد، وخاصة الزراعية منها. الموجة التالية من البحوث، اعتنت بالعلاقة بين السكان والتنمية الشاملة، مع ميل للتنمية الاقتصادية. وجرى البحث في هذا السياق، ضمن أمور عديدة، في التعليم ومخرجاته، ودور القطاع الخاص، والمجتمع الأهلي. في السنوات الأخيرة، برز مفهوم "التنمية المستدامة" كدليل لدراسات قضية السكان (والتمية البشرية عامة)، وهو مفهوم لا يشير إلى الديمومة وحسب، بل يهتم كذلك بمنظومة عريضة من العناصر، التي تضمن في مجملها تكامل المسار (وتنوعه) وترابطه. والتنمية المستدامة كمفهوم لازال يخضع لمزيد من التطوير، ويُمكن للمرء أن يعثر باستمرار على ما هو جديد على هذا الصعيد. ما يعنينا هو أن التنمية المستدامة تعتبر (وإن على المستوى النظري) الحل الأمثل لمقاربة المسألة السكانية، حتى بالنسبة للدول ذات الكتلة البشرية المترامية. هذا الحل يعني في خلاصته القدرة على استيعاب النمو السكاني ضمن مستوياته المختلفة، المتفاوتة بطبعها بين الدول والشعوب لأسباب كثيرة. والاستيعاب يعني قدرة الشعب على المحافظة على فتوته، وتجنب الهرم السكاني، وضمان مؤشرات التنمية البشرية الأساسية على مستوى الفرد والمجتمع، وسلامة سوق العمل، وصلاح عوامل ومحفزات الأداء الصناعي (والزراعي)، والتطور العمراني والمديني المنسجم واحتياجات السكان وخارطة انتشارهم. على الرغم من ذلك، فإن القول بأن التنمية المستدامة تمثل حلاً منطقياً على مستوى القضية السكانية لا يعني انتفاء التحديات المستجدة، التي ترتدي اليوم نطاقاً عالمياً. من هذه التحديات، تكاثر المدن الميتروبولية، والتطرف الايكولوجي (أو المناخي) وتزايد الأمراض السارية. المدن الميتروبولية تجلب التلوث المناخي، وغالباً ما تشجع الهجرة الداخلية غير المحمودة، وتتسبب في خلق ضواحي عشوائية، بالغة الضرر بكافة المعايير. وتقود المدن الميتروبولية أيضاً إلى خلخلة مؤشرات النمو السكاني، وقد تصبح ذات مفاعيل سالبة عليها، أو لنقل قد تقود إلى خفض هذه المؤشرات. التطرف الايكولوجي، من ناحيته، يمثل مصدر تهديد كبير للتنمية السكانية، الحضرية والريفية، كما للعناصر العامة لهذه التنمية. في تجارب عديدة حول العالم، قاد التطرف الايكولوجي إلى نزوح كتل بشرية عن مساكنها ومناطقها الأصلية، وأدى في حالات أخرى إلى تدمير مقومات الاقتصاد الأعاشي، أو الأولي، أو القروي، للعديد من المجتمعات المحلية. ويشكل التطرف المناخي اليوم مصدر تهديد لمدن ومناطق ساحلية كثيرة في قارات العالم المختلفة، ويمثل عامل ضغط على خطط التنمية العمرانية، وربما فرص النهوض الصناعي والزراعي، على المستويات الإقليمية أو الوطنية العامة. ولا تزال تداعيات موجات المد البحري العاتية (تسونامي)، التي أصابت بعض مناطق المحيط الهندي ماثلة للعيان، بعد أكثر من12 عاماً على وقوعها. كذلك أدى تسونامي ضرب اليابان في العام 2011 إلى نزوح عدد كبير من سكان المناطق المتضررة، فضلاً عما خلفة من أضرار على مستوى الاقتصاد الوطني، وخاصة شبكة الطاقة. بدورها، تعد الأمراض السارية الجديدة تحدياً غير محسوب في مقاربة قضية التنمية السكانية. هذه الأمراض تسببت، في العقدين الأخيرين، في ضعضعة كامل الكتلة السكانية في بعض دول العالم، وأعادت رسم مؤشراتها الأساسية. وحتى دون الوصول إلى مثل هذه النتيجة، تبقى أزمة الأمراض السارية عامل ضغط على مقاربة الأمن الحيوي، واستتباعاً للتنمية البشرية (والاقتصادية) بوجه عام. خلاصة، يُمكن التأكيد على حقيقة أن التنمية المستدامة تُعد المدخل المثالي للتعامل مع القضية السكانية، إلا أن ذلك لا يلغي البعد الآخر، المتمثل بعناصر الضغط المستجدة، عالمية النطاق.