فكرة الخصوصية وفكرة الاستغلال السلطوي ساهمتا بشكل تاريخي في الانقسامات التي ولدت عبر الزمن وهذا ما ساهم في تأسيس كل ما هو متطرف في السياق التاريخي الإسلامي.. المحاور المتحكمة في الأزمات العربية الإسلامية منذ قرون ليست بالقليلة فهي تتكرر من خلال أوجه عديدة ولكن المكونات الرئيسة لهذه الأزمات ظلت كما هي، والقارئ للتاريخ الإسلامي بعمق يرتبك في تحديد ما هو سياسي، لذلك لم تنضج النظرية السياسية الإسلامية مع أن هناك محاولات ومساهمات فكرية مستميتة حاولت أن توجد المشتركات بين ما هو إيديولجي وما هو سياسي. في التاريخ الإسلامي نجد وبوضوح أن الشرعنة الدينية انطلاقا من كون الإسلام هو المرجعية الوحيدة التي ساهمت في بناء هذا العالم، لذلك ظلت الشرعنة الدينية تاريخيا تتبنى دائما الإسهام السياسي والثقافي ولكنها عبر تاريخها الفكري ظلت في حوار فلسفي كبير حول ابتكار ما هو سياسي وما هو أيديولوجي هذا الحوار ولّد فكرة الخصوصيات المجتمعية. بعد سقوط الدولة العباسية آخر إمبراطورية إسلامية عربية انتشرت الدويلات القطرية والقومية والطائفية، ولأن المشترك بين ثنائية التاريخي والسياسي لهذه الدويلات هو البعد الديني، فقد ساهمت فكرة الخصوصية في أدلجة المذهب أو الطائفة أو الطريقة التعبدية التي ساهمت في نشر التباينات في المسار الفكري الديني، وهذه الفكرة عمقت الاختلاف والتباعد بين المكونات الشعبية في العالم العربي والإسلامي الذي يجد نفسه في مواجهة الانقسام بعد سقوط الدولة العباسية. منذ سقوط الدولة العباسية وحتى اليوم لم يوجد مستجدات فكرية لإعادة قراءة المشترك بين ثنائية التاريخي والسياسي في العالم العربي والمتمثل في الدور الديني الذي يمكن أن يلعبه الإسلام، مع أن القراءة الأوروبية لتاريخها الديني حدثت في أزمان ما بعد سقوط الدولة العباسية، وهنا لا بد من الاعتراف أن إحدى أهم أزمات العالم الإسلامي هي (فكرة الخصوصية) سواء في الفكرة أو المنهج أو الطائفة أو المذهب، وهذا ما ساهم في التحضير تاريخيا للانقسامات التي يشهدها العالم العربي والإسلامي. ما يوجد في العالم الإسلامي مجموعة كبيرة من الخصوصيات الإسلامية أصبحت تنسب بشكل مباشر إلى عدة أبعاد فعلى سبيل المثال ينتشر فكريا في عالمنا أن هناك إسلاما خليجيا وإسلاما إندونيسيا وإسلاما ماليزيا.. الخ من هذه الإسلاميات ذات الطابع الخصوصي، وكل هذا متعارض تماما مع الأسس التي يرتكز عليها الإسلام كما بدأ قبل أربعة عشر قرنا من الزمان. هذه اللمحة التاريخية البسيطة تعكس لنا عمق الأزمة وأن التطرف الذي يعاني منه العالم الإسلامي ليس وليد اللحظة التي تشكلت فيها منظمة القاعدة أو غيرها من الجماعات المتطرفة، فالسياق التاريخي لتنامي فكرة الخصوصية ظل مستمرا بل ومحفزا للكثير من الانقسامات من خلال توالد عنقودي ساهم في تواجد مئات الجماعات الإسلامية فخلال الأربعة عقود الماضية تضاعفت أعداد الجماعات الإسلامية بشكل ملفت للنظر ورصدت الكثير من الجماعات التي تنسب نفسها للإسلام من خلال مسارات تغوص في التفاصيل والتفسيرات، حيث تبني هذه الجماعات تفسيراتها الدينية عبر اختراع مبدأ خصوصيتها الإسلامية. في حالة المقارنة مع المسيحية في أوروبا على سبيل المثال لن تجد مسيحية ألمانية أو مسيحية هولندية كما هي بنفس المعنى عندما نقارنها بالإسلام وتقسيماته في عالمنا، وعندما تنسب الشعوب إلى معتقداتها، مع أن هناك أنواعا متعددة من المسيحية ولكن فترة التاريخ التصحيحية التي كانت في أوروبا ساهمت في حماية الفكر المسيحي من الانزلاق إلى مسار يقرنها بالجغرافيا أو الخصوصية كما يحدث في العالم الإسلامي، وهذا يطرح سؤالا ملحا حول دور فكرة الخصوصية ودورها في إفشال الابتكار السياسي في العالم العربي والإسلامي عبر تاريخ هذه المنطقة. النموذج الثقافي الإسلامي ساهم في تطوير المكونات التاريخية للشعوب الإسلامية، بمعنى دقيق لقد تشكلت تعاليم الإسلام في الأبنية والأنساق الاجتماعية بشكل مباشر فأصبح الإسلام محورا دقيقا في الصورة العامة للثقافة الإسلامية، وأصبح الانتماء الإسلامي ومع كل أسف مبالغا فيه عبر التاريخ السياسي لعالمنا الإسلامي، وتم استثمار الشرعنة الدينية التي تركز وبشكل محوري على تعاليم الدين وأخلاقياته إلى استثمار ارتبط بالنفوذ والسلطة الذي خلق الانقسامات وحولت الفكرة الإسلامية إلى فكرة سلطوية تم استغلالها عبر التاريخ، بينما تتركز الفكرة الإسلامية حول العبادات والأخلاق والقيم المجتمعية المؤدية إلى بناء مجتمع إسلامي يتميز بالقيم الأخلاقية والعلاقات التسامحية داخليا وخارجيا. فكرة الخصوصية وفكرة الاستغلال السلطوي ساهمتا بشكل تاريخي في الانقسامات التي ولدت عبر الزمن وهذا ما ساهم في تأسيس كل ما هو متطرف في السياق التاريخي الإسلامي وتم استغلال المرونة الإسلامية في الأبنية العقدية وتحويلها إلى نصوص سلطوية كما فعلت الطائفية وفعلت الجماعات الإرهابية عبر التاريخ الإسلامي. الخصوصية الدينية كما تنشر بين الجماعات والمذاهب والطوائف وحتى بعض الدول في العالم الإسلامي تشكل تهديدا حقيقيا للأبنية السياسية المتبقية من العالم العربي كونها تدفع باتجاه الانقسامات بشكل مستمر، وهذا ما يثبته التاريخ من تراكم هائل من الخصوصيات ذات الصفة الطائفية أو الصفة الأيديولوجية.. الخ، لهذا فإن ابتكار ما هو سياسي في مقابل ما هو عقدي مهمة فكرية يجب أن تقودها الدول القادرة وذات الإطار العقدي المعترف به من جميع المسلمين في العالم.