لا يمكن مقاومة سحر وجاذبية تلك الخطابات الشعبوية والوعظية الساذجة، إلا بتعزيز الروح العلمية ومبادئ العقل الكوني، وتلك مهمة التعليم بالدرجة الأولى.. من ظواهر الاجتماع البشري أن الجماهير، أو "العامة" بلغة القدماء، لا تستهويها، كما لا تحرك شجونها المقولات العلمية، ولا القياسات المنطقية، بعكس الخطاب الشعبوي التلقائي الحماسي، والذي يلامس عواطفها وشعورها، فيجعلها تستجيب بسرعة واندفاع شديدين. الخطاب العلمي أو المنطقي يخاطب العقل، ومقولات العقل وقناعاته ليست ذات علاقة مباشرة مع العاطفة، والعاطفة الإنسانية بطبيعتها سريعة التأثر، وهذا ما يجعلها لا تستجيب غالبا لما يخاطب عقلها، عكس ما يخاطب وجدانها. ولهذا السبب، أعني انحياز الجماهير للخطاب العاطفي ضداً على الخطاب العقلي، وجد القصاص والمذكرون، كما يسميهم ابن الجوزي، سوقا رائجا على مر التاريخ الإسلامي، بقدرتهم على اجتذاب وحشد العامة، على الرغم من أن ما كانوا يقدمونه للناس، محشو بالخرافة والأساطير، وكل ما يتنافى مع العقل. كان أبو الفرج بن الجوزي قد خبر طرائق الوعاظ والقصاص في التأثير على عواطف العامة، وألف من أجل ذلك كتابين نفيسين، هما (تلبيس إبليس)، و(القصاص والمذكرين). ولعل المناسبة تقتضي الإشارة إلى أن الوعظ الذي نقده ابن الجوزي وغيره، والذي لا يزال يضرب بسهم في قلوب الجماهير حتى اليوم، لا يمد بسبب إلى الوعظ، بصفته التذكير بالله وباليوم الآخر، وبكل ما يمت بصلة إلى الحث على حسن التدين، والاستعداد للآخرة، ونظافة القلب، ونقاء السريرة، والخشوع الصادق لله، والقيام له في جوف الليل، على حد "ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر"، وكذلك: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله"، وكذلك: "إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا"؛ وإنما ينصرف إلى ذلك الوعظ الذي صار موضوعا للتكسب المادي والمعنوي؛ وهو تكسب لمّا نزل نشهد تتابع فصوله تحت اليوم. وبشهادة ابن الجوزي نفسه، وفي زمن يفصله عن زمننا بما ينيف على ثمانمائة سنة، فإن الوعظ تحول من سبيل يراد به الله والدار الآخرة، إلى "مهنة" يتكسب من ورائها الجهال. فلقد أثار في كتابه (تلبيس إبليس) مسألة غاية في الأهمية بالنسبة لتقييم الوعظ والوعاظ، ألا وهي إشارته إلى أن الوعاظ كانوا في قديم الزمان، (قبل زمن ابن الجوزي)، علماء فقهاء، وكان أحد أبرز الوعاظ آنذاك، وهو عبيد بن عمير، له مجلس وعظ يغشاه بعض الصحابة كعبدالله بن عمر؛ لكن لما تعرض الجهال وقليلو العلم للوعظ، خسّت، وفق تعبيره، فابتعد العلماء والمميزون من الناس عن مجالسهم. إن العوام والنساء، وفقا لابن الجوزي، هم المستهدفون بالوعظ الساذج البعيد عن محكمات القرآن ومتواتر السنة، والذين هم، كما يقول "ذوو بواطن مشحونة بحب الهوى، فيَضل القاصُ بهم ويُضل". وتكاد بضاعة الوعاظ، ومحركي وجدان الجماهير، تكون واحدة في كل زمان ومكان؛ إنها القَصَصُ المحفوف بالغرابة والخرافة، وكل ما يتعالى على قوانين الطبيعة من الوقائع المكذوبة. إنهم، كما يقول أبو الفرج، قصدوا ما يزعج النفوس، ويطرب القلوب، فنوعوا فيه الكلام، ولقد تجدهم وقد "أقبلوا على القصَص، وما يعجب الجهلة". ما أدركه ابن الجوزي قديما في كيفية تلاعب الخطاب الوعظي الساذج بوجدان وعواطف الجماهير، أدركه حديثا الطبيب والمؤرخ الفرنسي المعاصر،(جوستاف لوبون، توفي عام 1931)؛ ولذلك، ألف كتابه ذائع الصيت (سيكولوجية الجماهير)، والذي أكد فيه أن الخطاب الشعبوي يركز، أول ما يركز، على مخيلة الجماهير فيستثيرها لكي تستقبل ما يريد بثه إليها. ومن أبرز ما يستصحبه الخطاب الشعبوي، وفقا للوبون، الصور، والكلمات، والشعارات؛ وإذا لم تتوفر لديه صور، فإنه يقوم بخلقها في مخيلة متلقي خطابه. وثمة عرض مرضي آخر للخطاب الشعبي، ألا وهو أنه عندما يستدعي الكلمات والشعارات والتعبيرات، فإنه يقدمها مستقلة عن معانيها الحقيقية؛ ذلك أن سدنة الخطاب الشعبوي، ومنهم كثير من الوعاظ المعاصرين، يُحمِّلون الشعارات والكلمات التي يأتون بها معاني أخرى، ربما هي لا تحتملها بحال؛ وهذه نتيجة مباشرة لانعدام الروح العلمية والمنطقية في الخطاب الشعبوي الوعظي من جهة، وانعدام تلك الروح أيضا في الجماهير المتلقية له، من جهة أخرى. إن العقل والمحاجات المنطقية لا يمكنها، وفقا للوبون، أن تقاوم الصياغات التعبيرية المحملة بشحنة وجدانية عاطفية؛ إنها، أعني تلك الصياغات التعبيرية، ما إن تلفظ بنوع من الخشوع، حتى تعلو آيات الاحترام على الوجوه، وتنحني الجباه لها. ولا يمكن مقاومة سحر وجاذبية تلك الخطابات الشعبوية والوعظية الساذجة، إلا بتعزيز الروح العلمية ومبادئ العقل الكوني، وتلك مهمة التعليم بالدرجة الأولى. ولا أظن أن منصفا سيدعي أن تعليمنا بكافة مراحله يدعم هذه الروح؛ ولذلك، فهو أمل سيظل يروادنا، حتى يقيض الله له من يحمل لواءه.