الوعاظ المعاصرون يعتمدون اليوم على نفس الآليات التي استقراها ابن الجوزي، من استمالة العوام في إفشاء كل غريب وساحر وخلاب، إلى استحضار القصص والخرافات التي تتجاوز، إما سنن الكون، وإما سنن العقل والمنطق. إلى الهيام باستصحاب الأحاديث الضعيفة، بل المنكرة التي تنضح بالغرائب لم يَخبُرْ أحد من السلف أو الخلف الوعاظَ، سواءً أكان في أساليبهم في الوعظ، أم في طرائقهم في حشد العوام من حولهم، ومن ثم التكسب، من وراء ذلك، مادياً ومعنوياً، مثل أبي الفرج، عبدالرحمن بن الجوزي،( 510 592ه)، الذي ذكر نتفاً من سيرهم، وتطفلهم على الموائد، وما جبلوا عليه أنفسهم من طرائق تَكسُّب، وحب للرئاسات، في مؤلفين من مؤلفاته، هما: (تلبيس إبليس)، و:(القصاص والمذكرين). والنقد الذي وجهه ابن الجوزي في مؤلفيْه لا ينصرف إلى الوعظ بحد ذاته، ذلك أن معناه، أي الوعظ، ينصرف في اللغة القاموسية العربية إلى: "النصح والتذكير بالعواقب، وتذكير الإنسان بما يُلين قلبه من ثواب وعقاب: (لسان العرب لابن منظور، مادة"وع ظ")، فهذا النوع من الوعظ حفل به القرآن الكريم واحتفى به في آيات كريمات، منها قوله تعالى: "ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر". وقوله تعالى: "فمن جاءته موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله". وقوله جل ذكره: "إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا". وكذلك قوله عز وجل: "فأعرض عنهم وعظْهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا". كما احتفت به السنة المطهرة، كما في حديث العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، إلخ الحديث"، وإنما ينصرف إلى ذلك الوعظ الذي تحول إلى مهنة يُتوسل بها التربح من استغلال العوام، رجالاً ونساء. فلقد ذكر في كتابه (تلبيس إبليس) وتحديداً في "فصل تلبيسه على الوعاظ والقصاص" أن: "الوعاظ كانوا في قديم الزمان علماء فقهاء، وقد حضر مجلس عبيد بن عمير (= أحد الوعاظ الفقهاء) عبدُالله بن عمر رضي الله عنه. وكان عمر بن عبدالعزيز يحضر مجلس القصاص. ثم خسَّتْ هذه الصناعة (= الوعظ)، فتعرض لها الجهال، فبعد عن الحضور عندهم المميزون من الناس، فلم يتشاغلوا بالعلم". هنا إذاً ملمح هام جدا، يشير إلى أن الوعظ تحول منذ ذلك الوقت إلى مهنة خسيسة يتقحمها جهلاء لا يحررون ما يقولون، ولا ينقحون ما ينقلون، ولا يصححون أو يضعفون، بل كل همهم إلقاء الكلم على عواهنه محفوفاً بكل غريب وعجيب مما يأخذ بألباب مستهلكي بضاعتهم من العوام. من هذا التحديد الواضح للوعظ المذموم، ينطلق ابن الجوزي إلى تشخيص أحوال الوعاظ أنفسهم، مروراً بتوصيف بضاعتهم ونوعية مستهلكيها. فبالنسبة للوعاظ، يقدم ابن الجوزي قائمة بمواصفاتهم، منها أن: "قوماً منهم يضعون أحاديث الترغيب والترهيب، ولبَّس عليهم إبليس بأننا، (= الضمير هنا يعود على الوعاظ)، نقصد حث الناس على الخير وكفهم عن الشر. وهذا افتيات منهم على الشريعة، لأنها عندهم على هذا الفعل ناقصة تحتاج إلى تتمة. ثم نسوا قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)". و"منهم من يُظهر من التواجد والتخاشع زيادة على ما في قلبه. وكثرة الجمع (= كثرة الحضور)، توجب زيادة تُعملُ (= في التخاشع الكاذب)، فتسمح النفسُ بفضل بكاء وخشوع. فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة. ومن كان صادقا لم يسلم صدقه من رياء يخالطه". و"منهم من يصف ما يجري لهم (=للحضور) من البلاء ويذكر الغربة ومن مات غريبا، فيُبكي النساء ويصير المكان كالمأتم. وإنما ينبغي أن يذكر الصبر على فقد الأحباب، لا ما يوجب الجزع". و"منهم من يتكلم في دقائق الزهد، ومحبة الحق سبحانه، فلبس عليه إبليس: (إنك من جملة الموصوفين بذلك، لأنك لم تقدر على الوصف حتى عرفت ما تصف، وسلكت الطريق)". أما طائفة منهم "فتحث على الزهد وقيام الليل، ولا تبين للعامة المقصود، فربما تاب الرجل منهم، وانقطع إلى زاوية، أو خرج إلى جبل، فبقيت عائلته لا شيء لهم". وطائفة أخرى "تحضر المقابر، فتذكر البلى لفراق الأحبة، فيبكي النسوة، ولا يحث على الصبر". وأخرى "تتكلم بالطامات والشطح الخارج عن الشرع، وغرضها أن يكثر في مجلسها الصياح ولو على كلام فاسد. وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها". ورغم أن هؤلاء الوعاظ اعتادوا أن يدعوا غيرهم إلى الزهد والتخفف من الدنيا، والرغبة في الآخرة ونعيمها، إلا أنهم لا يباشرون ما يدعون إليه، فتجدهم يتخلقون بخلق الكبر والبطر، ويتخذون الفخامة في تأنيق المأكل والمركب والمسكن والملبس. وهكذا فمنهم "من يميل إلى الدنيا من المراكب الفارهة، والملابس الفاخرة، فيفسد القلوب بقوله وفعله". وبعضهم "شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان، فيحب دائماً أن يُعظَّم". وإضافة إلى ذلك فقد "جعلوا القصص معاشاً يستمحنون به الأمراء والظلمة، والأخذ من أصحاب المكوس، والتكسب في البلدان". وهؤلاء جميعهم "تركوا الشرع وراء ظهورهم، ولهذا نفقت (راجت) سلعهم، لأن الحق ثقيل، والباطل خفيف". وإذا كانت هذه بالإجمال صفات أولئك الوعاظ، فمن هم المستهدفون عادة بوعظهم يا تُرى؟ إنهم، كما يقول ابن الجوزي "من عامة العوام والنساء، الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى، فيَضل القاصُ بهم ويُضل". أما عن بضاعتهم التي اعتادوا تسويقها بين العوام، فإن القارئ لوصف ابن الجوزي لها لا يكاد يصدق أنه ليس حاضراً بيننا، عندما يشير إلى أن هؤلاء الوعاظ: "تلمحوا (=قصدوا) ما يزعج النفوس، ويطرب القلوب (= غرائب القصص والخرافات)، فنوعوا فيه الكلام". وتراهم قد "أقبلوا على القصَص، وما يعجب الجهلة". وبالتالي فقد "تنوعت البدع في هذا الفن". مقارنة ما وصف به الجوزي الوعاظ وما ينتجونه من بضاعة، وكذلك نوعية مستهلكي البضاعة إلى زمنه، بما ينتحله وعاظنا المعاصرون، تكاد تفضي إلى المطابقة بينهم. ذلك، أننا نعايش اليوم واقعاً تحول فيه الوعظ إلى مهنة متاح لكل دخيل أو متعالم أن يتعاطاها بلا مجهود يذكر. الوعاظ المعاصرون يعتمدون اليوم على نفس الآليات التي استقراها ابن الجوزي، من استمالة العوام في إفشاء كل غريب وساحر وخلاب، إلى استحضار القصص والخرافات التي تتجاوز، إما سنن الكون، وإما سنن العقل والمنطق. إلى الهيام باستصحاب الأحاديث الضعيفة، بل المنكرة التي تنضح بالغرائب. ولعل ما زادوه على ما أتى به ابن الجوزي مما لم يكن متوفراً في زمنه، أنهم امتطوا ظهور القنوات الفضائية يمطرونها غثاءهم ومنكراتهم. أما جعْلهم القصص معاشاً يستمحنون به الآخرين، ويتكسبون به في البلدان، كما وصف ابن الجوزي وعاظ زمانه، فحدث بها ولا حرج عن وعاظ زماننا. كلنا اليوم نعايش اليوم وعاظاً خرجوا زمن الصحوة، أو بعدها، من بلدانهم وقراهم وهم يعيشون إملاقاً لا يحسدون عليه، فأصبحوا اليوم كما هم أولئك الحفاة العراة العالة رعاء الشاء الذين غدوا يتطاولون في البنيان، ويتنافسون في الأرصدة البنكية، ويتنقلون بين المدن والبلدان كما هم نجوم الفن والرياضة! وللمقال صلة.