الأمم المتقدمة تسلح طلابها بالعلم والمعرفة من أجل جيل جديد يتعامل بمهارة مع تحديات المستقبل، وهذا لن يتحقق إلا بجامعات ذات بيئة تعليمية مبتكرة تستهدف عقل الإنسان لتصنع منه منتجاً وعبقرياً.. وهذا ما تجده رغم أن رسوم جامعاتها تمثل معاناة لدى كثير من الطلبة، ولكن كثيراً من الدول كذلك لا تنظر بشكل بحت إلى دخل الطالب المادي وتقيّمه بناء عليه، بل ترى حالته الماديّة ليست عقبة في أن يلتحق بالكلية والدرجة التي يريدها لطالما أن الشروط الأكاديمية قد استوفاها؛ وتبقى حلول الرسوم الدراسية في كثير من الدول المهتمة تحيطها من كل جانب، فالحكومة تقدم قروضاً دراسية للجميع، والطالب يتعامل مع القرض بأقساط يدفعها مع مراعاة الجوانب الحياتية والاجتماعية للطالب، بالإضافة إلى التدابير الأخرى الميسرة كالمنح الدراسية للمتفوقين وأنموذج ذلك الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا وفنلندا وسنغافورة واليابان.. أما عندما يمر الطالب بعجز عن سداد القرض يفاقم المشكلة ولا يحلها، فقد كفل له النظام الأسترالي للقروض الدراسية المرونة، فيسمح للطالب تمديد مدّة تسديد نفقات تعليمه الجامعي حتّى يصلوا إلى قيمة دخل إجمالي محدد. ورغم أن الشهادة الجامعية يقطفها اليوم الكثير كي يقنع ربّ العمل بإنه "جامعيّ" ومتخصص بغض النظر عمّا أضافته سنوات الدراسة من قيمة مهاراتية وعلمية لشخصه، لكن هذا الأمر لن يمر مرور الكرام ولن تستطيع أن تتخذ "الشهادة" كجواز سفر، فمثلاً "في البرازيل" لا تستطيع أن تعبر دون تمحيص وتدقيق في ثمرة العلم الذي تحمله، فهل نضجت فيك وأينع قطافها؟ حيث يتم اختبارك قبل دخولك للبرنامج الجامعي وبعد إكمال الدراسة كذلك تُختبر وهي من يحدد درجتك العلمية، ولهذا كان للبرازيل النصيب الأكبر في إنتاج البحوث مؤخراً متفوقة على سائر دول أميركا اللاتينية مجتمعة. "كولومبيا" هي الأخرى أبدعت في كشف "قيمة الشهادة" بدءاً من 2010م حيث تختبر الطالب قبل تخرجه والنتيجة التي يتحصل عليها تقارنها بنتيجة المرة الأولى التي جاء فيها إلى الجامعة، والنتيجة الأخيرة يتم ارفاقها بمعدّل الدخل الفردي للطالب، وبهذا تقدم فكرة قوية تساعد الطالب على اختيار القرار الصائب في دراسته وماذا يريد منها؟ وعلى غرار هذه الدول كان كذلك للمنظمات العاملة بمجال التعليم العالي برامج تكشف قدرة الطالب الجامعي، وهو ما بدأت به المنظّمة العالمية للتعاون الاقتصادي والتنمية، والتي دأبت على برنامج تربوي يعرف ب(PISA) يقيّم الطالب في التعليم، والبرنامج الآخر (AHELO) تقييم مختص في كليتي الهندسة والاقتصاد بما يتعلق بالطالب الجامعي. يقول أندرياس شلايشر مدير التعليم والمهارات والمستشار الخاص للأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للسياسة التربوية في باريس: "قيمة الشهادة الجامعية تبقى بقيمة ما يكسبك التعليم العالي من قدرات متزايدة على تطوير ذاتك، فقد تدخل سوق العمل بعد سنوات من الدراسة الجامعية وتجد أن الأمر لا يستحق ما كنت تتصوره!". ولعلي أضيف هنا منعطفاً يبقى الأهم نحو الشهادة العلمية، أنها لن تكون وثيقة أو صكّاً علمياً لقيمة الإنسان، ليعيدني إلى مقولة خالدة للفيلسوف الأميركي توماس كون عن الشهادة "أنها إقرار من مجموعة من الأساتذة يشكلّون مدرسة علميّة بأن الخريج قد حصل على المعرفة اللازمة وفق ما تبنته هذه المدرسة من مفاهيم ونظريات وإنسانية". [email protected]