"إذا رغبت في شيء ما، فإن العالم كله يطاوعك لتحقيق رغباتك" هذه المقولة وردت في الرواية الشهيرة الخيميائي، وكذلك أيضاً تلهج بها وبما هو مثلها ألسنة وأفئدة رواد سوق التفاؤل، وتصدح حناجر الباعة لِتسويقها، حيث أصبح التفاؤل أو الإيجابية إحدى أهم السلع المتداولة اجتماعياً اليوم ومن أهم العلامات التجارية؛ دورات تدريبية، محاضرات، كتب، شعارات وجلسات تأمل كخطوة أولى تؤهلك لِخوض سباق قوسِ قُزح الهوسي وكأنما كان الأزل غائماً..! جميل هو التفاؤل ولا يكلف ما تكلفه مضادات الاكتئاب، كما أن من السهل الحصول عليه، ولا لتعاطيه آثار جانبية!. فلكل منا رغبات تساوره، رغبات من هندسة هويته وتكوينه النفسي والاجتماعي والفكري، إلا أن جني العالم لا ينحني مطاوعاً الراغبين المتفائلين ملبياً على الفور، بل قد يقذف بالأمنيات الثلاث السحرية رجاءً في موقد الحلم!. هل هذا لأن الرغبة حرباء متقلبة ما بين ظاهر جديتها وبطون زيفها، أم لأن الأمر ليس بنعومة الأمنية؟! يقول الفيلسوف آرثر شوبنهاور: "الوجود شر لأن رغبات الإنسان لا تنتهي، ما إن تتحقق رغبة حتى يتطلع إلى غيرها، وبذلك يظل يعاني الآلام والأحزان. يظل الإنسان يعيش بين حالتين إما شقاء طلباً للسعادة واللذة، وإما في ملل وسأم إذا تحققت." السلوك الفلسفي العام اليوم هو كيف تتحقق جودة الحياة (بالتفاؤل) وكيف تصطاد الأحلام (بالإيجابية)، فبات الناس اليوم في حالة من القسوة والأنانية المصطبغة باللون الوردي، فلم يعد أحداً يريد أن يسمع شكوى أحد، المشاعر تعلقت على الحبال الزاهية مشنوقة، يتفشى نكران الواقع اللامرغوب فيه والعلاقات المغمّقة خشية العدوى..! أستحضر هنا قصة يرويها حارس جسر البوابة الذهبية في سان فرانسيسكو أميركا، ففي يوم 11 مارس 2005م استلم الرقيب (كيفن بريقز) عبر الراديو بلاغا عن حالة يشتبه أنها محاولة انتحار، قاد درجته النارية إلى حيث تم إبلاغه، فلاحظ رجلا يقف على ممر المشاة الجانبي من الجسر، فاقترب منه الحارس فابتعد الآخر عنه قليلاً ليصبح أكثر قرباً للهاوية، تحدثا قرابة الساعة والنصف، أو بالأحرى كان الرقيب كيفن منصتاً لحديث المتأرجح ما بين الحياة والموت، عن الاكتئاب واليأس والعجز، حتى قرر أخيراً أن يعطي للحياة فرصة أخرى، وبعدما عاد هنأهُ كيفن وبادره بالسؤال: ما الذي جعلك تتراجع ماذا كان السبب؟! أجابه: إنك أنصت إلي، تركتني أتحدث وأنصت إلي، يبدو أن هذا كل ما أحتاجه. بتصوري أن تفاصيل هذه الحادثة في قمة الإيجابية، حيث الهرب من المواقف السوداوية والمقاومة بصمّ الأذن ورفض المشاركة سلبيات شرسة، ليس على الآخر فحسب إنما تحمّل النفس أحمالا ثقيلة وضاغطة، فالإنسان الإيجابي الأصيل مؤثر لا يتأثر، يقود ولا ينقاد، وما عدا ذلك هو إنسان مرعوب، قلبه مليء بثقوب، يظن أنها منافذ لإشراقات خيوط الشمس بينما هي رتق من خيوط الوهم والوهن!. يقول الطبيب النفسي روجر كوفن مؤلف كتاب "The Need to be Liked": "في الحقيقة الأفكار والمشاعر السلبية التي عادة ما تحارب، هي أقرب في فائدتها إلى الفيروسات والجراثيم في الجهاز المناعي للإنسان، أولاً لأن التفكير السلبي قادر على التكيف بشكل أكبر، فالقلق يقودك إلى البحث عن حلول للمشكلة والبحث عن الأمان، التجارب السلبية أيضاً من شأنها أن تعمل على تطوير شخصيتك وذكائك، الشعور بالعار يدعونا إلى تصحيح الأخطاء. كما أن الأفكار الإيجابية أحياناً تأتي بنتائج عكسية على غير المأمول وإن لم يتحقق المرجو يتحقق الإحباط". هذه ليست دعوة إلى التعاسة والانهزامية، بل إلى استثمار الأزمات والمشكلات، والانفتاح على العالم باستعداد كلي على جميع ألوانه وأطيافه، فلا يمكن لأحد يرغب في أن يحيا حتى الحدود البعيدة أن يرتبط بعلاقة رومانسية مع الحياة، ولا أن يكتفي لخوضها بامتطاء خيول الأماني المطهمة، يضرب على جيدها بخيط حرير، ويدغدغ أجذاعها بمهماز من فرو.