قبل أعوام سافرت بالقطار وحيداً من فينا إلى سلزبيرج بالنمسا. كانت عربة القطار (على وسعها) فارغة تماماً الأمر الذي أسعدني ووهبني الشعور بامتلاك المكان. ولكن قبل تحرك القطار بلحظات دخل رجل أشقر ضخم نظر في تذكرته ثم جلس أمامي بالضبط.. وبما ان أحدنا لا يعرف الآخر ظهرت بيننا مشاعر كره وتحدّ (من سيتراجع وينسحب من مكانه أولاً).. وبسبب عناد الطرفين انتهت ساعات الرحلة ونحن في حالة توتر وصمت مطبق تتلامس قدمانا بدون أن تتلاقى نظراتنا (وهو ما دعا كلاً منا للبس نظارته السوداء وشتم الآخر في سريرته).. هذا الموقف المحرج تذكرته مؤخراً وأنا أقرأ عن دراسة طريفة تقول إن حوادث العنف بين ركاب الدرجة السياحية تزيد بثلاثة أضعاف عن ركاب الدرجة الأولى (حيث لا يحتاج المسافرون للتنازع على مقعد فارغ أو مكان للحقائب أو القدمين أو حتى سماع شخير بعضهم البعض)! ... ولا أعتقد أننا بحاجة لدراسة كهذه كي نتوقع وجود علاقة طردية بين مظاهر العنف واقتحام فقاعتنا الشخصية. فكلما اقترب الأغراب من بعضهم كلما زاد التوتر وارتفع احتمال الشجار بينهم.. ومن الأسباب التي تجعل سكان المدن أكثر توتراً وعصبية من سكان الأرياف هو اضطرارهم للتعامل من الانتهاكات اليومية لفقاعتهم الحيوية؛ فهم يضطرون للالتصاق بالأغراب في الطائرات والطوابير وعند إشارات المرور وفي المصاعد (حين تمر الثواني كساعات ويتحاشى الناس النظر في عيون بعضهم البعض).. وحين يصلون إلى العمل يضطرون للاقتراب من المراجعين والجلوس بقرب الزملاء وتحمل وقوف المدير فوق أكتافهم. نكره ذلك لأن لكل إنسان مجالاً شخصياً (أو فقاعة حيوية) تحيط بجسمه ويتضايق جدا حين يقتحمها الأغراب. وهو مجال نفسي أكثر منه حقيقياً يحيط بكامل الجسم لا نسمح لغير أحبائنا باقتحامه (تخيل كيف تتصرف حيال شخص غريب يقترب من وجهك لمسافة ليسألك عن اسمك).. وهذا المجال الحيوي يلاحظ حتى لدى الحيوانات التي توسع نطاقها الخاص بترك فضلاتها في نقاط دائرية أو إطلاق رائحة قوية حين تكون في مركزها! والبشر بدورهم يستولون على الأماكن المحيطة بهم ليس لحاجتهم إليها بل لمنع الأغراب من البقاء فيها. وهذا التصرف تراه كثيرا في المتنزهات والشواطئ حين تحتكر عائلة صغيرة المقاعد المحيطة بوضع ثلاجة قهوة أو سجادة زائدة لتوسيع نطاقها الحيوي.. وقبل فترة قرأت عن سيدة من ألمانيا اشترت قطعة الأرض المجاورة لمنزلها فقط كي لا تبني عليها إحدى الشركات ناطحة سحاب تهيمن على فضاء بيتها! وفي الأحوال العادية تمر هذه الانتهاكات بسلام؛ ولكن على المدى الطويل قد تصبح بدون أن نشعر مقدمة للعنف وظهور أسوأ خصال البشر. فحين يحشر الموظفون في مكان ضيق تسوء أخلاقهم ويقل تركيزهم. ويعترف حراس السجون أن السجين يظل مسيطراً على نفسه حتى يقترب منه الحراس (للتفاهم معه). وفي الرحلات الجوية قد يغضب أحد المسافرين ولكنه لا يفقد السيطرة على نفسه إلا حين يقترب منه المضيف لتهدئته أو الهمس بأذنه.. وفي المقابل ثبت أن المشاكل الزوجية تخف كثيراً بعد الانتقال لمسكن أوسع.. كما تقل عصبية الأطفال ويصبحون أكثر تركيزاً بعد خروجهم من نطاق الشقق الضيقة وهو ما يصدق أيضاً حتى على المخلوقات الأليفة.