يروي الفرزدق موقفا له مع ذئب تعرض له في الصحراء، حيث يقول: وأطلس عسال وما كان صاحبا/ دعوت بناري موهنا فأتاني. ويروي الفرزدق محاورة من طرف واحد مع الذئب. فالذئب أطلس أي أمعط، عليه غبرة وسواد، والأصل في معنى الطلس المحو، فكأن صيغة أفعل منه تعني أن الغبرة محت لون الذئب، وهو بذلك كناية عن شدة تعرضه للقائلة حيث لا ينفك بحثا عن الصيد. والفرزدق على عكس الذئب، زاده وفير وهو يشوي كما يفهم من البيت: وبت أقد الزاد بيني وبينه/ على ضوء نار مرة ودخانِ. والفرزدق يتقي الذئب بالسيف، فالعلاقة بينهما رغم اقتسام الزاد متوترة: فقلت له لما تكشر ضاحكا/ وقائم سيفي من يدي بمكانِ. والتباين الذي يصفه الفرزدق عند (ضحك) الذئب يلخص هذه العلاقة المتوترة، فمع أنه يضحك إلا انه يرى ما وراء هذه الضحكة من أنياب توحي بالفتك، لكن السيف القائم من يد الفرزدق بمكان، ربما أعاد للعلاقة توازنها إن بقي الذئب على العهد: تعش فإن عاهدتني لا تخونني/ نكن مثل من يا ذئب يصطحبانِ. هذه العلاقة المتوترة بين الذئب والفرزدق، التي كما يبدو كانت عاقبتها حسنة للطرفين، للفرزدق الفخر وللذئب الزاد؛ فُسرت بالعلاقة المتوترة بينه وبين زوجته النوار. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: أيهما الذئب؟ وإن كان الفرزدق في غالب الظن يرمز بالذئب إلى علاقته مع النوار أو النوار نفسها، إلا أن سيرة الفرزدق مع النوار توحي أن الفرزدق هو البادئ بالغدر، فيكون الحوار بذلك مع نفسه. فالذئب إنما شهوة الفرزدق لتملك النوار وصراعه مع رغبته في إبقائها لنفسه. هكذا تكون النوار قد وقعت فريسة ذئب الفرزدق، فهي ابنة عمه، وهي امرأة ذات عقل ودين، تزوجها الفرزدق عنوة. حيث يروي صاحب الأغاني أن رجلا خطب النوار فأشهدت الناس أن الفرزدق وليها. وكان على الفرزدق أن يتم زواج الرجل إلى النوار، إلا أنه غدر بها وزوجها نفسه. لكن ذئب الفرزدق خلافا لما رواه في القصيدة لم يبق على العهد، فقد طلق الفرزدق النوار: ندمت ندامة الكسعي لما / غدت مني مطلقة نوارُ. إلا ان ذئب الفرزدق الذي هو في الحقيقة ذئب ذاتي، لم يكن يرصد الفرزدق وحده، بل تجده عند غيره كما يروي عبدالوهاب المسيري صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. يقول المسيري إن ذئب الإتقان، أو كما سماه الذئب الهيجيلي المعلوماتي، قد ترصد لعدد من أكثر أصدقائه علما وموهبة فصرعهم. ورغم ان المسيري كما يحكي عن نفسه قد روض هذا الذئب الكامن في نفسه، إلا ان قارئ سيرة المسيري سيتبين أنه لم يتخلص منه تماما. فقد أمضى المسيري أكثر عمره في كتابة موسوعة اليهود واليهودية، مستنفرا طاقته وطاقات من معه في هذا العمل التاريخي. وانتهى بالمسيري أن أصابه مرض غامض بعد أن انتهى من عمله الكبير شفي منه بعد معاناة طويلة، كان أغلب الظن نتيجة هذا الذئب الكامن في نفسه طيلة عمله على الموسوعة. لكن هذا الذئب الكامن الذي واجهه الفرزدق والمسيري، على اختلاف بين الذئبين، يماثله الذئب الذي يكمن في الرغبة في الانجاز السريع. ذئب الإنجاز هو على الحقيقة نقيض ذئب الإتقان الذي كمن في المسيري، لكنه وراء كثير مما نتداوله اليوم من أخبار، ومنتجات وأفكار. فكيف لنا نقرأ الأثر الكبير لذئب الإتقان وذئب الإنجاز في ما ننتج أو نستهلك اليوم؟ أو أن الأمر أن (الوسط) يصعب الإمساك به كما يقول ييتس. حيث يكاد يكون كل ما نتداوله اليوم يلهث هاربا من ذئب الإنجاز، ذلك الذي يلاحقنا جميعا: وأطلس عسال وما كان صاحبا.