معظم من ادعوا النبوة إما كانوا مصابين بهلوسة نفسية أو اضطراب في الفص الصدغي (على جانبي الدماغ).. يرون ويسمعون ما لا يراه ويسمعه بقية الناس ولا يشكون مطلقاً بصدق أحاسيسهم.. أنا شخصياً أتفهم هذا، ويتفهمه أيضا الحافظ ابن أبي الدنيا الذي ألف كتابا في هذا الشأن دعاة الهواتف (أورد فيه قصصا كثيرة عن مدعين ورهبان ومتصوفة يسمعون أصواتاً سماوية تهتف بهم لفعل هذا الأمر أو ذاك).. مالا أفهمه فعلاً هو كيف يعتقد أحدهم أنه أصبح رباً يتحكم بأقدار الناس ونواميس الكون في حين يصعب عليه التحكم بنوبات الحمى والإسهال وغلبة النعاس.. كيف يصبح إلهاً كاملا في حين تستمر حاجته للطعام والشراب والذهاب للمرحاض.. ألا يفترض أن لا يسمع أو يرى شيئا خارقا (حتى وإن فقد كامل فصوصه الدماغية أو أصيب بكل هلوسات العالم) لأنه أصبح فوق الجميع لا يحتاج لمن يوحي إليه أو يأمره بشيء.. وإلا أصبح نبياً رسولاً.. .. ادعاءات الألوهية أمر يختلف عن ادعاءات النبوة، وأراها شخصياً مرحلة متقدمة من جنون العظمة تصيب حكاماً وطغاة ولدوا أصلاً في مستوى رفيع.. وحين يصاب هؤلاء بجنون العظمة يظهر فرعون ونمرود وسيلاسي وكيم سونج وكثير من طغاة التاريخ.. ففرعون مصر مثلاً ولد أصلا لعائلة تعتقد أن دماء الرب تسري في عروقها (لدرجة كان ملوك الفراعنة يتزوجون أخواتهم كي لا يختلط نسلهم مع بقية البشر).. وفرعون موسى بالذات أصيب بجنون العظمة وقال (ياقومِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ثم انتقل لمرحلة متقدمة فادعى الألوهية وقال (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) ثم أضفى على نفسه صفة الوحدانية (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) حتى انتهى به المطاف بطلب عبادته واعتباره مرشدا أعلى (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).. .. وقبل فرعون بقرون كان هناك النمرود أول ملك طغى في الأرض وادعى الربوبية ولبس التاج.. يعود نسبه إلى حام بن نوح (حسب الكامل في التاريخ لابن الأثير) ووردت قصته مع إبراهيم عليه السلام في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم.. أمر الناس بعبادته وأيقن أن إبراهيم هو الفتى الذي حلم به يهدم مملكته.. وقبل أن يرمي به في النار جرى بينهما نقاشات ذكية حول صفات الرب الحقيقية (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفرّ).. حتى الإغريق الذين اخترعوا المنطق كانوا يؤمنون بأن أبطالهم وحكامهم إما من سلالة الآلهة أو أنصاف آلهة (ممن يتزاوجون مع البشر).. ولكن، بما أن الإغريق هم أيضاً من اخترع الديموقراطية لم يكن ينال لديهم هذا الشرف إلا من يثبت جدارته من الأبطال ولهذا السبب ارتفع هرقل وأخيل والإسكندر لمقام الألوهية بعد وفاتهم.. أما جمهور المتلقين من عامة الشعب فتتقلب مواقفهم بحسب منزلة المدعي نفسه.. فإن ادعى رجل بسيط منهم أنه (إله) يعتبرونه مارقاً أو مجنوناً.. ولكنهم (حين يولدون داخل الأسطورة) يتقبلون ادعاء الألوهية من الملوك والطغاة وأصحاب السلالات النبيلة.. بدليل ما كان يحدث في أثيوبيا ومصر القديمة.. المفارقة؛ أن الحالة الأولى تُدعى جنوناً وهلوسة.. والثانية ديانة وتعاليم مقدسة!!