إنه لأمرٌ جوهريٌّ وفي الصميم وفي غاية الأهمية للأفراد والمجتمعات والبشرية كلها أن يتعرَّف الناس على طبيعتهم ليُنَمُّوا إيجابياتها ويقاوموا السلبيات ذات الأولوية التلقائية، ولو تحقق ذلك للعدد الأكبر من الناس في كل الأمم لصار بإمكان الجنس البشري أن يثب وثبة حضارية هائلة.. في مختلف بلدان العالم يقف الناس طوابير للحصول على الموديل الأخير لجهاز الهاتف المحمول لمجرد الحرص على التحسينات المضافة لكن اكتشافات عظيمة تتعلق في صميم وجود الإنسان كالاكتشافات العلمية الباهرة عن دماغ الإنسان أو عن الطبيعة البشرية تمر من دون أن يهتم بها سوى عدد من الأفراد في كل العالم، وهذا الخلل في غياب العناية بمتابعة أهم الحقائق عن طبيعة الإنسان التي هي منبع ما يصدر عنه ومنه من خير أو شر هو من أكبر معوقات التقدم الإنساني في المجال الفكري والأخلاقي، فالناس حتى في أشد المجتمعات ازدهارًا يحصرون اهتمامهم بمجالاتهم المهنية كما يهتمون بالأشياء والمقتنيات لكنهم لا يهتمون بفهم ذواتهم وما تنطوي عليه قابلياتهم فمعرفة أغوار النفس قد تؤدي بالناس إلى مقاومة النقائص الطبيعية التلقائية والتحفز لتنمية واستثمار قابلياتهم الإيجابية لأن بعض الناس حاليا يحاولون تطوير أنفسهم لكنهم يحصرون ذلك في الحدود المهنية واكتساب مهارات تتيح لهم النجاح المهني أو تسويق خدماتهم... ومع أن القراءة في المجتمعات المتقدمة هي التسلية الأكثر حضورا ورغم أن الكثير من الإبداعات الروائية المقروءة تتضمن مفاهيم مهمة عن الإنسان والحياة والعلاقات والعواطف الإنسانية والمعرفة والحرية وغيرها من القيم الحضارية العظيمة إلا أن أكثر القراء لا يستخلصون هذه المعاني العظيمة من قراءاتهم فهي قراءات للمتعة والتسلية فالذي يجذبهم هو الفن القصصي أما المضمون فمن النادر أن يتعمقوا فيه؛ لذلك يبقى معظم الناس حتى في المجتمعات المزدهرة إمَّعات تتحكم بهم برمجة الطفولة وطوفان الإعلام المسيَّس أو الخاضع للمصالح والأفلام المثيرة ومؤثرات اللحظة أما البحوث العميقة عن الدماغ ووظائفه وعن الطبيعة البشرية وعن كل ما هو عميق من المعارف الأساسية فيبقى متداولا في نطاق ضيق.. إنه لأمرٌ جوهريٌّ وفي الصميم وفي غاية الأهمية للأفراد والمجتمعات والبشرية كلها أن يتعرَّف الناس على طبيعتهم ليُنَمُّوا إيجابياتها ويقاوموا السلبيات ذات الأولوية التلقائية ولو تحقق ذلك للعدد الأكبر من الناس في كل الأمم لصار بإمكان الجنس البشري أن يثب وثبة حضارية هائلة تضعه في المستوى الذي يليق بكائن أخلاقي عاقل، إن الناس لو أدركوا ما فاتهم من عدم الاهتمام بالتعرف على قابلياتهم وكيفية تعبئتها بالإيجابيات لأدركوا فظاعة التفريط والهدر والفوات فالإنسان بما ينضاف إليه ولكن تحقيق التعبئة الإيجابية يستوجب أن يفهم الفرد طبيعته فقابلية التعود هي السر الأعظم الذي يتيح له تنمية قدراته الأخلاقية والفكرية والمعرفية بلا حدود كما أنه السر الأخطر فليس تفكير وسلوك الإنسان سوى سلسلة من العادات الذهنية والسلوكية... إن قابلية التعود هي أعظم خصائص الإنسان، إن فاعليات الإنسان الإيجابية لا تكون إلا تلقائية فلابد أن تنساب أو تتدفق بحسب الاحتياج وهذا يتطلب تعبئة القابليات إلى درجة التعود والاكتظاظ كما أن قابلية التعود شديدة الخطورة، وعلى سبيل المثال فإن الإدمان ما هو إلا عادة مستحكمة فالتلقائية هي مفتاح الطبيعة البشرية إنها النعمة العظمى والمعضلة المستعصية فلولا التلقائية لما انتقل المولود بالتبرمج التلقائي من مستوى القابليات الفارغة إلى مستوى العقل والفهم واللغة والوعي والمسؤولية وبذلك تمكَّن من الارتقاء تلقائيًّا إلى المستوى الإنساني، ولولا قابلية التبرمج والتعود على مختلف الأعمال وأنواع الأداء لما كان بمقدور الإنسان أن يكتسب أية مهارة مما تقتضيه الحياة ولكان يبدأ من الصفر كل مرة لكن هذه النعمة العظيمة تقابلها معضلة مستعصية فما تلتقطه الحواس وتنقله تلقائيًّا إلى الدماغ بقابلياته الفارغة وأجهزته العجيبة يتقبَّله الدماغ تلقائيا ويعالجه فيقوم بفرزه وتصنيفه وترميزه ليكون أساسًا لما يأتي بعده مهما كان نوع ومحتوى ما يتم التقاطه ونقْله فالدماغ لا يملك آلية للتفريق بين الصواب والخطأ ولا بين الحقيقة والوهم وبهذه العمليات التلقائية الباهرة والمعالجة المذهلة يتكون العقل الفردي فليس عقل الفرد سوى التصورات والأنماط والمعايير والفهم واللغة التي تتبرمج بها قابلياته وبهذه العملية المدهشة يتكوَّن إما عقلٌ فرديٌّ استثنائي كعقل آينشتاين أو مضادٌّ له كعقل هتلر أو يتكوَّن عقل أي فرد من أعظم الناس حكمة أو أشدهم حماقة فتتنوع العقول واللغات بتنوع الأمم والشعوب بل تتعدد بتعدد الأفراد فالقابليات الفردية ليست متماثلة كما أن ما ينضاف إليها ليس متماثلا وبسبب ذلك تختلف الآراء والفُهوم والمواقف وبسببه يصعب تبادل الأفكار فتشتد الاختلافات ليس فقط بسبب اختلاف قابليات الأفراد لكن الأهم هو اختلاف ما تتبرمج به هذه القابليات فلو أن آينشتاين أُخذ في شهره الأول وسُلِّم لأسرة تعيش ضمن ثقافة منغلقة لما صار هذا العالم الباهر... إن نظرية التلقائية تجيب على إشكالات معرفية مزمنة مثل ظاهرة اكتساب الأطفال تلقائيا للغات أهلهم قبل بزوغ وعيهم فهذه الظاهرة ظلت خلال القرون لغزًا محيرًا كما ظل الناس يعتقدون بأن الإنسان يولد بعقل جوهري جاهز وثابت وبقي هذا التصور العام مسيطرًا، حتى إن عبقريا مثل نعوم تشومسكي قد تَوَهَّم أن الإنسان يولد مزوَّدا بعضو للغة كالجناح للطائر ووجدتْ نظريته قبولا واسعا يتجلى في مثل كتاب (الغريزة اللغوية) تأليف ستيفن بنكر الذي يؤكد: "أن التمكُّن من فهم النظرية النحوية يمثل غبطة فكرية يقِلُّ نظيرها"وكان هذا يتعارض مع الاتجاه السلوكي في علم النفس كما يتعارض مع نظرية بياجيه التكوينية التي كانت نتاج سنوات طويلة من المتابعة الدقيقة كما يتعارض مع اتجاهات علمية أخرى مهمة مثل اتجاه العالم الفيلسوف ليف فيجوتسكي الذي يقول في كتابه (الفكر واللغة): "إن الفكر اللفظي ليس شكلا فطريا طبيعيا للسلوك بل هو يتحدد بعملية ثقافية وتاريخية وله خواصه النوعية وقوانيته التي لا يمكن أن توجد في الأشكال الطبيعية للفكر والكلام"لكن الأهم هو التقدم الأخير والمذهل الذي حققه علمُ الأعصاب والتقدم في علوم أخرى فقد حَسَم الخلافَ وقوَّض هذا الوهم الذي شاع بسبب المكانة الكارزمية لتشومسكي... إن نظرية تشومسكي قد أثارت جدلا واسعا على المستوى العلمي في كل العالم وجرى إصدار كتب ودراسات كثيرة مؤيدة أو معارضة ومازالت الإصدارات تتوالى ومن آخرها كتاب (تفكيك تشومسكي) للبروفيسور كريس نايت الذي يتساءل باستغراب: "كيف تمكن الرجل من السيطرة على أجزاء واسعة من الفكر الغربي منذ الستينات بأفكار مثل هذه؟!" أما البرفيسور تيرنس ديكون فقد ألف كتابا ضخمًا في نحو ألف صفحة بعنوان (الإنسان.. اللغة.. الرمز) وفيه يستبعد الحل الذي اقترحه تشومسكي ويؤكد أن: "علم الأعصاب قد سبر أغوارا عميقة لكشف غوامض وأسرار وظيفة المخ"كما يؤكد أن"البحث عن المفاتيح اللازمة لفهم طبيعة العقل البشري من خلال الأصول الأولى لنشأة اللغة يغفل دلالة حقيقية تتمثل في أن اللغة نوع واحد من أنواع الخروج عن القياس"ويقول: "إن صعوبة مسألة نشأة اللغة ليس سببها ما نجهله بل ما نظن أننا نعرفه"ويقول في رده على تشومسكي: "الملاحظ أن نظرية عضو اللغة العرضي ترجونا إغفال التفاصيل المزعجة عن نشأة اللغة"ثم يقول: "إن نظرية غريزة اللغة تضع نقطة نهاية وهي تقييم ما تحتاج نظرية تطور اللغة إلى تفسيره ولذلك تعيد صوغ المشكلة بأن تعطيها اسمًا جديدا بيد أن هذا لا يقدم إلا ما يزيد قليلا عما قدمته نظرية الحدث الإعجازي"ثم يقول: "لا أعتقد أن القدرات النحوية لدى الأطفال هي السر الغامض الحاسم للغة"وينتهي إلى القول: "صفوة القول: إن صور المخ في حالة نشاطه لأداء مهام لغوية تكشف عن تنظيم تراتبي يربط كلا من الزمن بالتنظيم التراتبي لمقاطع الجمل والانفصال بالنسبة إلى الشكل المادي أو التمثيل أو عرض الإشارة وتبين كذلك أن مناطق اللغة الكلاسيكية ليست وحدات أساسية بل تجمعات أو عناقيد معقدة من مناطق كل منها لها مكونات وظيفية مختلفة وهذا لا يتسق مع الرأي القائل بوجود عضو للغة في المخ مكتف بذاته إذ لو أن اللغة نشأت نتيجة لإضافة وحدة جزئية للغة في مخ الإنسان فليس لنا أن نتوقع مثل هذا الانتشار الواسع للعمليات اللسانية في مناطق متنوعة من قشرة المخ كذلك لو أن هناك وحدة جزئية للنحو فإنها ليست متمركزة في منطقة واحدة من قشرة المخ نظرا لأن الوظائف الفرعية المقترنة بالعمليات النحوية والبنائية للغة موجودة في كل من المنطقتين الأمامية والخلفية"إن الاكتشافات الأخيرة التي تبين منها قدرات الدماغ العجيبة على الاستقبال التلقائي لما تنقله الحواس ومعالجته بشكل تلقائي بالفرز والتصنيف والترميز والتثبيت قد أغنت عن التخمينات فصار معروفا كيف يتكوَّن العقل وكيف تُكتسَب اللغة... إن الدماغ يتعامل ويعالج تلقائيا ما تنقله إليه الحواس من دون معونة الوعي ولا الحاجة إليه فتأسيس البنية الذهنية يتم تلقائيا قبل بزوغ الوعي كما أن بعض المتخلفين تخلُّفا عقليا شديدًا يحفظون كل ما تنقله حواسهم إلى أدمغتهم من دون أن يعوا أو يفهموا أي شيء مما حفظوه كما هي حالة الشاب المصري المعاق ذهنيًّا بشكل كامل أحمد مسلَّم عبيد الذي يحفظ القرآن بعدد من اللغات وهو لا يفهم أيًّا منها وكل المهتمين قد شاهدوا أو سمعوا عن المعاق الأمريكي كيم بيك الذي يحفظ كل ما يقرأ فهو يملك ذاكرة فوتوغرافية والحالات المماثلة باتت معروفة على مستوى العالم، وقد تضمن كتاب (جزر العبقرية) تأليف دارولد تريفيرت الكثير من الحالات الغريبة المذهلة فالنتيجة التي يمكن استخلاصها من كل ذلك هي أن ما تنقله الحواس إلى الدماغ يتعامل معه تلقائيا ويعالجه من دون حاجة للوعي وبهذا يكون اكتساب اللغة معروف المسار.. إن جسم الإنسان مجهَّزٌ بأجهزة معالجة متنوعة مدهشة لمختلف الوظائف، فمثلما أن جهاز المناعة يترصد ويتعرَّف على أي شيء يدخل الجسم وأن الجهاز الهضمي يعالج مختلف الأغذية فكذلك الجهاز العصبي يتعامل مع المعلومات التي تصله عن طريق الحواس ويعالجها ويبني بها المسارات والمشابك والأنماط والنماذج، وكما يقول عالم الأعصاب الشهير بول باخ ريتا: "أعط الدماغ المعلومات فقط وسيتمكن من التعامل معها"فما تنقله الحواس إلى الدماغ يعالجه فيقوم بفرزه وتصنيفه وترميزه كما يفعل الجهاز الهضمي مع الأغذية المتنوعة وكما يقول تشالز سايف في كتابه (فك شفرة الكون): "فنحن الكائنات البشرية نخزن المعلومات في عقولنا وجيناتنا كما لو كنا مجرد كمبيوترات تخزن المعلومات على أقراص صلبة فعقولنا الرائعة هي بمثابة آلات لمعالجة المعلومات وتخزينها"إن تَعَرُّف الناس على الكيفية التي تعمل بها أدمغتهم وأجهزتهم العصبية لو تحقق سوف يؤدي إلى تغيرات نوعية في تفكيرهم وأخلاقهم ومهاراتهم ومعارفهم ولكن الناس لن يتجهوا إلى مثل هذا الاهتمام تلقائيا وإنما لابد أن يحصل نوع من الطفرة في تحول الاهتمام نحو ذلك على المستويات المحلية والعالمية. إن تصورات أكثر الناس في كل العالم لطبيعة العقل المغايرة لحقيقته تحول دون التفكير في الكيفية التي يتكوَّن بها فقد توارث الناس أن العقل جوهر ثابت وبقوا على ذلك رغم كل الكشوف التي تنفي ذلك وتؤكد أن الحواس تقدم مواد البناء للدماغ فيقوم تلقائيا بتشييد العقل والوجدان بهذه المواد التي تنقلها الحواس إليه من البيئة، إنها عملية مدهشة وكما يقول عالم النفس المعروف ألفريد أدلر في كتابه (الطبيعة البشرية): "إن الحواس الخمس تلعب أكبر الأدوار وأكثرها أهمية في تحديد علاقات الطفل الأساسية بالعالم الذي يعيش فيه فإن الطفل ينشأ ويُكَوِّن صورة العالم المحيط به من خلال هذه الحواس الخمس وأهم هذه الحواس حاسة البصر" فبواسطة التكامل والتفاعل بين الحواس والجهاز العصبي تتكون لدى الطفل بشكل تلقائي تصورات وأنماط ونماذج عن الناس والأشخاص والأشياء والحياة والموت والعالم وبهذا التأسيس التلقائي لبنية العقل تتحدد رؤيته للوجود ثم يصبح من أصعب الأمور تعديل هذه التصورات فإحلال أنماط مغايرة يتطلب من المراحل والعمليات ما يتطلبه بناء بيت جديد مكان بيت قديم وما يقتضيه ذلك من عمليات هدم وإخلاء ثم بناء البيت الجديد بمواد مغايرة وتكوين مختلف.. إن الكيفية التي يتحقق فيها التفاعل بين الحواس والجهاز العصبي لتأسيس وتشييد البنية الذهنية في وقت مبكر من حياة أي مولود قد باتت مبسوطة في مئات المصادر العلمية يقول: باتريك ماكلود وهو متخصص في بيولوجيا الأعصاب الحسية: "الأدمغة تَستخلِص من الصور الحسية التي تتلقاها – المعلومات الأكثر تجريدا والأكثر منهجية والأكثر اختصارا وهي التي تُشَكِّل مفاتيح التجريد والذكاء" إن هذه الحقيقة تستوجب الحرص الشديد على حماية قابليات الأطفال من أن تتكون تلقائيا بما يجعلهم عبئًا على أنفسهم وعلى بلادهم وعلى العالم فالنتائج مرهونة بنوع المواد التي تنقلها حواس كل طفل من بيئته إلى دماغه..