التقينا صدفة في مكان ما.. منذ زمن لم ألتقِها ولكنه زمن قصير لا تختلف فيه الوجوه ولا تتبدل الملامح.. ولكن عندما تحدثنا بدا زمن لم يتجاوز العشر سنوات.. تغيرت كثيراً.. ذابت في داخلها.. وذاب الزمن الجميل معها.. لم تتجاوز منتصف الأربعين ومع ذلك تبدو امرأة تجاوزت الستين من عمرها.. فاقدة للحياة.. ولا تعرف أن هناك أملاً نعيش عليه لنتيقظ غداً.. مفعمين بالصحة والعافية والأهم من ذلك.. الحياة التي علينا أن نُبدي فعلياً أننا راغبون فيها ومقبيلون عليها وهو أمر لا يتعلق بالعمر وإنما يتعلق بالرغبة في الحياة التي هي حق طبيعي عليك أن تعيشه.. ولا تموت في العشرين وأنت لا تزال على قيد الحياة ومسجل في دفاترها.. ومحسوباً كإنسان يتنفس ويأكل ويتحرك.. فالحياة ليست تسجيل قيد بأنك حي ويعرف من حولك أنك من الأحياء.. ولكن ينبغي أن تكون حيّاً فعلياً تعيش بالطريقة التي تختارها ولكن تدخل هذه الطريقة في نمط الحياة الحقيقية وليست الوهمية التي اخترتها متعمداً.. دون وعي بأنك ميت..! بعد التحايا.. ترددت في أن أسألها بحكم العشرة القديمة والزمالة التي كانت بيننا إن كانت طيبة وبصحة جيدة؟ ومع ذلك سألتها عن حالها وأولادها وإن كانت تعاني من شيء؟ بطريقة مازحة.. كله تمام أولادك وزوجك ووالديك وكل من حولك؟ قالت: الحمد لله نحمده ونشكره على كل حال.. ومع خجلي في أن أسألها هل هي مريضة.. ابتسمت وقلت لها: صحتك تمام يافلانة..؟ قالت الحمد لله بخير نأكل ونشرب ونرقد والعيال يكبروا ومش محتاجين لأحد..! شعرت أن الكلام ناقص وهناك حلقة مفقودة ففلانة هذه.. تلبس أكبر من عمرها.. ولا تقوم بصبغ شعرها وهو كله أبيض وملامحها التي كانت جميلة وجذابة وغارقة في فتنة السمار أو ما يسمى باللون البرونزي بهتت وبدت وكأنها سيرة واغلقت صفحاتها.. وليس اللبس والهيئة هي الصورة الواضحة ولكن الكآبة التي كست محياها.. وغرقت داخلها وبدت معها وكأنها حياتها الحالية.. لا تضحك أو تبتسم وفجأة حضرت ابنتها العشرينية التي تعيش عمرها وتسبقها ضحكتها.. سلمت عليّ بعد أن تركتها طفلة.. لاحظت أنها تفيض بالحياة والحيوية وتعانق الأمل، وتكتسي بحياة اختارت طوعاً أن تعيش داخلها، ربما هي حياة تتناسب مع سنها وانطلاق الشباب ولكنها بهذا الاختيار كسرت النمط الذي تعيش داخله في البيت.. وهي محقة في أن تضحك وتفرح وتأمل.. من الحديث معها وكغيرها من الشباب تعيش داخل كل وسائل التواصل الاجتماعي وتسعد بها.. غادرت المكان وظللت أحكي مع الأم بهدوء وأحاول أن أفهم مدى صواب اختيار هذه الحياة المنتهية..!! سألتها ما علاقتها بتويتر.. والفيس بوك والسناب.. والواتس أب.. لم تجب أخرجت لي جوالها.. بدون كاميرا.. من القديم وقالت كل ما أعرفه من الجوال هو الرد على من يتصل ولا أتصل على أحد ولا أعرف حتى أسجل رقماً.. المشكلة أننا ورغم قناعاتنا بخيارات الناس إلا أن الجوال كان صادماً لي ومرعباً وعندما طلبت مني أن أخزّن لها رقمي لم أعرف وقلت لها خلاص أنا اخزنه عندي.. وسألتها لماذا لا تشتري جوال فيه كاميرا تشوفي أولادك لما يسافروا وتطمني على أهلك؟ قالت ما أحتاجه أسمعهم في الجوال أنهم بخير والحمد لله والله يجعلهم بخير.. وأردفت الجوالات للصغار وللشباب وإحنا راحت علينا.. واللبس لهم.. نحن ربينا وبنينا لهم بيوت تسترهم وموفرين لهم كل شيء.. اللي يغير سيارة كل يوم واللي يبغى يسافر واللي الجوال يرميه بعد كام شهر وكل ما طلع جديد.. إحنا ننتظر عزرائيل يجينا تزوجنا صغار وخلفنا ودرسنا وتوظفنا ولانزال على رأس العمل.. فجأة استأذنت على امل لقاء آخر وغادرت بعد أن أتمنى لها طول العمر.. ودعتها وتمنيت لها العمر الطويل والصحة والسلامة..! بجانبي نساء أكبر منها بعشر سنوات يبدين في كامل زينتهن.. مبتسمات مقبلات على الحياة.. قمن بأدوراهن كاملة وتحملن مسؤوليات كبيرة من عمل وكفاح وزوج وتربية ومع ذلك ظلت هناك مساحة كافية لكل واحدة منهن تعيش حياتها داخلها تعتني بمظهرها وتستمتع مع معارفها، ولم تختصر الحياة من أجل الآخرين الذين لن يختصروا حياتهم من أجلك.. هناك عبارة شهيرة تقول "لا علاقة للأيام بالنضج.. نحن نكبر بمرور الناس" ورغم أن هذا المرور إجباري إلا أن كل شخص يتأثر بهذا المرور حسب رؤيته وتفكيره وفهمه للحياة وكيف يعطي وكيف يأخذ..! يسرق منك الآخرون زمنك بإرادتك ويتركونه بعد ذلك على الأرصفة غير مدركين أنك كنت بحاجة له.. ولكن هذه السرقة غير مجرّمة لأنك سمحت بها بدافع الحب أو الإيثار أو منح السعادة للآخرين على حسابك..! والأهم من ذلك أنهم لن يتذكروا أنك منحتهم بل على العكس قد يقولون لك ذات يوم إنك لم تكن مجبراً عليها.. وكان يمكنك أن تعيش حياتك وأن تعرف ما تريد بنفسك..!!