4 مواجهات ترسم أضلاع الذهب    ريندرز لاعب مانشستر سيتي : لا يوجد سبب للشعور بالقلق    إحباط تهريب (15) كجم "حشيش" في تبوك    بدء أعمال الدورة ال55 لمجلس وزراء الإعلام العرب    نظام الرقابة المالية يرفع كفاءة إدارة المال العام والشفافية والمساءلة    ملف الرفات وتحديات الهدنة: تبادل هش ومصير معلق في غزة    إيران تلوح بباب التفاوض المفتوح    تصاعد الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن: جهود مكثفة لإنهاء حرب أوكرانيا    محافظ الأحساء يطلع على جهود مركز عبدالله بن إدريس الثقافي    18 جائزة دولية للسعودية عن تميز مستشفياتها وباحثيها    "دعوة خميس مشيط" تواصل برامجها الدعوية في سجن الخميس العام لشهر جمادى الآخرة    توقيع الخطة المشتركة للتعاون الأمني بين السعودية وإسبانيا    النصر يكسب الاستقلال الطاجيكي برباعية ويتأهل لثمن النهائي في دوري أبطال آسيا 2    إتاحة التنزه بمحمية الطوقي    «سلمان للإغاثة» يوزّع (882) سلة غذائية و(882) كرتون تمر في عكار بلبنان    رباعيات العالمي مستمرة    القوات الخاصة للأمن البيئي: غرامة الصيد دون ترخيص 10 آلاف ريال    تايوان تخطط لإنفاق 40 مليار دولار على الدفاع لمواجهة الصين    غدًا.. أخضر السلة يواجه الهند في افتتاح النافذة الأولى لتصفيات كأس العالم    المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب يعقد أعمال دورته ال21    الأمن العام يدعو ضيوف الرحمن إلى الالتزام بالممرات المخصصة داخل الحرم    أكثر من 66 مليون قاصد للحرمين الشريفين خلال شهر جمادى الأولى 1447ه    أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية الفلبين    نجاح النسخة الأولى من منتدى الأعمال الذي نظمته وكالة التجارة الإيطالية في المملكة العربية السعودية    بأمر ترامب.. البدء بإجراءات تصنيف "الإخوان" منظمة إرهابية    الرؤساء التنفيذيون في السعودية يتصدرون مستويات الثقة والاستعداد للذكاء الاصطناعي وفقا لتقرير كي بي إم جي    13.9 مليون إجمالي مرات أداء للعمرة خلال شهر جمادى الأولى    40.8% من الأسر تفضل الطاقة الشمسية كمصدر للطاقة في المسكن    عنبر المطيري تُشعل «وهج القصيد» في أمسية شعرية تحت مظلة الشريك الأدبي    الأمم المتحدة تطلق عملية لانتخاب أمين عام جديد لها    التأكيد على أهمية ضمان مسار حقيقي للتوصل إلى حل الدولتين    «غزة الإنسانية» توقف أعمالها بعد منعها توزيع المساعدات    أمير الرياض يستقبل مديري الشرطة ودوريات الأمن    بطل فريق هنكوك السعودية سعيد الموري يشارك في رالي جدة بدعم مجموعة بن شيهون وشركة الوعلان للتجارة    من ذاكرة الزمن    «حراء».. أصالة التاريخ وروح الحداثة    القيادة تهنئ رئيس مجلس رئاسة البوسنة والهرسك ورئيسة سورينام    مطار أبها الدولي يحصد المركز الثالث عالميًا في الالتزام بمواعيد الرحلات    عبدالعزيز بن سعد يُدشِّن خدمات "مدني الحفير"    ذروة استثنائية في المسجد الحرام    خالد بن سلمان يرأس وفد المملكة في اجتماع مجلس الدفاع الخليجي    أمير نجران يثمّن حصول مستشفى الملك خالد على الدرع الذهبي من "ELSO"    «الجوازات» تصدر 25,646 قراراً بحق مخالفين    أزمة اللغة بين العامية والفصيحة    المسرح الشبابي    «مركز الموسيقى» يحتفي بإرث فنان العرب    علماء: مذنب يقترب من الأرض مطلع يناير    "الداخلية" تسهم في إحباط محاولة تهريب مخدرات    17.2 % فائض الربع الثالث.. 19.4 % ارتفاع الصادرات غير النفطية    استعرض فرصهما للشراكات العالمية..الخريف: التقنية والاستدامة ركيزتان أساسيتان للصناعة السعودية    موسكو تطالب بجدول زمني لانسحاب الاحتلال    زيارة تاريخية تصنع ملامح مرحلة جديدة    تماشياً مع الأهداف العالمية للصحة والتنمية.. الربيعة: السعودية حريصة على حماية حقوق التوائم الملتصقة    غزال يقتل أمريكية أنقذته    جورجية تفقد النطق بسبب السجائر الإلكترونية    الموافقة على نظامي الرياضة والرقابة والمالية وإقرار إستراتيجية التخصيص    الحقيقة أول الضحايا    أمير تبوك يستقبل سفير دولة الكويت لدى المملكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيار ماشريه وفلسفة الأدب
نشر في الحياة يوم 26 - 08 - 2014

منذ منتصف ستينات القرن العشرين إلى اليوم، ثابر الفرنسي بيار ماشريه على العمل في حقلين نظريين متمايزيين، أحدهما الأدب الذي أعطاه عام 1966 دراسة عنوانها: «نحو نظرية في الإنتاج الأدبي»، أتاحت لها جدتها شهرة ضافية، وثانيهما الفلسفة، التي ساهم فيها بدراسة عنوانها: «هيغل أو سبينوزا». قرّر في نظريته الأدبية، التي درس فيها جول فيرن، رائد رواية الخيال العلمي وبورخيس ودانييل ديفو في روايته «روبنسون كروزو»، أن النص الروائي ينتهج أيديولوجية أدبية لا تمتثل إلى مقاصد مؤلف. وقارن في كتابه الثاني بين الفيلسوف الألماني هيغل والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، وابتعد عن الأول، لأنه يغلق التاريخ ويعطيه تأويلاً صوفياً، وانتصر للثاني ولتعاليمه الداعية إلى التحرر الإنساني.
راكم ماشريه جهوده في الحقل الفلسفي الذي اختاره - سبينوزا - وأصبح مرجعاً فيه، واستمر في تأملات أدبية طليقة أفضت إلى كتاب «التفلسف مع الأدب»، الذي نشره العام الماضي، وأضاء فيه فكرته الأساسية عن «الفلسفة الأدبية». صالح في النهاية بين الأدب والفلسفة من دون أن يختزل أحدهما إلى الآخر، منتهياً إلى اجتهاد قوامه «فلسفة مستقلة بذاتها»، لا تردد مقولات الفلسفة التقليدية، ولا تكون نقداً أدبياً مدرسياً، يقطع مع التأمل الفلسفي. والفلسفة الأدبية هذه ليست مزجاً «هجيناً» بين فرعين من فروع المعرفة، هما الأدب والفلسفة، بمقدار ما هي مساهمة معرفية «خاصة»، تتكئ على نصوص أدبية (الرواية عموماً)، وتشتق من قراءتها مقولات قد تلتقي مع الفلسفات المعروفة أو تتمايز عنها، ذلك أنها محصلة لقراءات أدبية خالصة. أراد ماشريه أن يحرر الأدب من تبعيته التقليدية للفلسفة، وأن يكشف عن فلسفة أدبية، خاصة، تسائل الفلسفات المعروفة، وتضيف إلى أسئلتها المحدودة أسئلة جديدة.
فصل التاريخ الفكري الأوروبي، الممتد من سقراط إلى الفيلسوف الألماني كانط، بين الأدب والفلسفة فصلاً يكاد أن يكون حاسماً، موحداً بين الأدب وما هو «جميل»، وأوكل إلى الفلسفة البحث في الحقيقي والحقيقة. لم يكن هذا الفصل، بين مجالين قوامهما الكتابة، ممكناً تماماً، كانت في الكتابة الفلسفية أبعاد أدبية، حال نصوص «مونتينيه» وكتابات باشلار لاحقاً، ولم تكن النصوص الأدبية مبرّأة من الفلسفة، منذ أن أدرج فيكتور هوغو «إنسان القاع الاجتماعي» في روايته «البؤساء»، وصولاً إلى الأدب الوجودي، ممثلاً بأعمال سارتر وألبير كامو.
توقف ماشريه في «التفلسف مع الأدب» أمام مفهوم «الفلسفة الأدبية»، من حيث هي فلسفة بلا فلاسفة، لا تختزل إلى فلسفة من خارجها، حتى لو تقاطعت معها، فهي تتشكل مستقلة في سيرورة الكتابة الأدبية، وتصدر عن الصياغة اللغوية للأبعاد الزمنية والمكانية، وعن الرموز المختلفة التي تخترق عملية الكتابة. ولذلك فإن الرواية الحقيقية، بالمعنى الذي يقصده ماشريه، ليست تلك التي تقصد القبض على الحقيقة، بالمعنى الشائع، بل تلك التي تنتهي عملية كتابتها إلى حقيقة غير متوقعة، يلامسها القارئ في لحظة القراءة، من دون أن يصرّح بها الكاتب أو أن يسعى إليها. يؤكد الباحث، وهو يأتي بمفاهيم لا ينقصها الغموض، أمرين: «تصدر فلسفة الأدب عن عمله المتعدد الأبعاد الذي ينتج فيه نصوصه»، الأمر الذي يضع الفلسفة في قلب العملية الأدبية، ويوزعها على علاقاتها جميعاً. أما الثاني فيرتبط بالمنهج، الذي لا يقبل بمفهوم «التأويل»، أو الادعاء القائل بالقبض على جوهر النص وأسراره، ذلك أن ماشريه يبني «فلسفته الأدبية» على عناصر اللغة والأسلوب وسيرورة الكتابة، وكل ما يتصل بالنص ويضع المؤلف خارجاً.
كان جورج لوكاتش قد قرأ الأدب بفلسفة جاهزة تتكئ على هيغل، فلسفة «خارج أدبية» يأتي بها «الفلاسفة الكبار» وتطبّق على الأعمال الأدبية، ومايز باختين، بعد قراءته لديستويفسكي وتولستوي، بين روايات متعددة الأصوات (المبدأ الحواري) وروايات احادية الصوت يقينية المنظور. بعيداً من «شمولية» منظور الأول ومن ثنائية منظور باختين، أراد ماشريه أن يعترف بالاستقلال الذاتي للنصوص الأدبية، وأن يشتق من كل منها فلسفته، كما لو كان كل نص يفرض قراءة خاصة به، طالما أن لكل نص أسلوباً ولغة تميزانه من غيره. والمحصلة تصورات فلسفية متعددة، تساوي النصوص المرتبطة بها، تتقاطع مع تصورات بعض الفلاسفة، أو تكون مستقلة عنها.
كان ماشريه، في كتابه «نحو نظرية في الإنتاج الأدبي» قد خلص إلى نتيجة، لها شكل القانون، تفصل بين تصورات المؤلف و «أيديولوجيا» نصه الأدبي، فما يقوله النص يقوله باستقلال عن «قول المؤلف». أما في كتابه «التفلسف مع الأدب» فهو يمارس قراءة طليقة، تفكر حرة، وتعطي النص الترجمة التي تريد وتسمح للقارئ، تالياً، بأن يفكر حراً بالنتائج التي وصل إليها ماشريه. والواضح في هذا كله مفهوم التعددية: تعددية القراءة، التي تصل بين «فيلسوف الأدب» والقارئ، ذلك أن الأول يقرأ كما يريد، قراءة بلا قوانين، ولا يقرّر موقفاً أخيراً. بيد أن هذه التعددية، التي هي تعبير عن الحرية، لم تكن ممكنة من دون التنوع الكبير في الإنتاج الأدبي - الفلسفي الأوروبي، حيث الفلسفة تمتد من أفلاطون إلى فوكو والروايات التي تعامل معها ماشريه، تمتد من القرن الثامن عشر («سادوم في أيامه المئة والعشرين» للمركيز دوساد 1784)، إلى منتصف القرن العشرين (أحاديث مع الأستاذ ي لسيلين، 1955). يستولد المؤلف من قراءاته الأدبية، مقولات فلسفية محضة: نهاية التاريخ، الفلسفة السياسة، إشكالية الموت والتبدّد...
يقول الأدب غير ما تقوله الفلسفة، ويقول ما لا تستطيع الفلسفة قوله، كما لو كان في الأدب نقد للفلسفة وتجاوز لها. يقول ماشريه: «من ساد إلى سيلين، ارتضى الأدب بقول كل ما لا يجب قوله. فهو يرى العالم التاريخي الذي نعيش في صوره المنحرفة والمشوهة والفاسدة والبذيئة، كما لو كانت هذه الصور تتشكّل في مرآة مكسورة، تكشف حقيقة العالم المحتجبة». يتكشّف العالم، جوهرياً، بفعل الكتابة الأدبية، التي تحتفظ بحريتها، مهما كان شكل الرقابة اللغوية التي تقع عليها. وهذه الحرية التي تحرج الفلسفة وتتهمها، وتفضح قصورها، تسمح للقارئ بأن يستخلص من النص الذي يقرأه ما يشاء من الأفكار.
يبدأ ماشريه بحثه بفعل: قرأ، الذي يساوي: فكّر، ويوحّد بينهما بفعل ثالث هو: أنتج، الذي يترجم النص فلسفياً، ويعيّن مقولاته الفلسفية الصادرة عنه. لا ينتهي الباحث إلى قول أخير، فكل قراءة تحتمل أن تكون «قراءات»، تتفق كما تختلف، بقدر ما أن لسبل التفكير اتجاهاته المتنوعة. والمتبقي ماثل في حرية القراءة و «التأويل»، التي لا سبيل إلى تنظيم علاقاتها و «قواعدها». ولذلك أضاف الباحث إلى عنوان كتابه «التفلسف مع الأدب» عنواناً ثانوياً: «تمارين في الفلسفة الأدبية»، تمارين لا تنظر إلى معنى أخير، بمقدار ما تصوغ المعنى الذي عثرت عليه أثناء القراءة.
والسؤال المنتظر على ضوء الرواية العربية: هل كل كتابة روائية تنطوي فعلياً على فلسفة أدبية؟ وإذا كانت إمكانات كل كتابة من إمكانات السياق التاريخي الذي أوجدها، فهل في السياق الذي أوجد الرواية العربية ما سمح بنصوص لها فلسفتها الأدبية؟ يستلزم الجواب، أو ما يشبهه، «تمارين نظرية» مغايرة. فمسار هذه الرواية افتقر، ولا يزال، إلى نصوص فلسفية مجاورة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.