تظل غاية الأدب والاحتفاء بالثقافة القيمة التي تبقى في مسيرة الحضارات والشعوب وسوق عكاظ هو رمز الأدب عند العرب في جاهليتهم إذ كان يجتمع فيه الشعراء والخطباء من القبائل كما هو معروف تاريخيا، حيث كان النابغة الذبياني يجلس الشعراء العرب في سوق عكاظ على كرسي فينشدونه فيفضل من يرى تفضيله، فأنشدته الخنساء -كما ذكرت كتب الأدب- في بعض المواسم فأعجب بشعرها وقال لها "لولا أن هذا الأعمى أي الأعشى أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء الموسم". واليوم تزدهي هذه السوق في ثوبها الجديد لتتواصل الثقافات العربية وتلتحم القصيدة من جديد بجمهورها العريق. إن هذه السوق بكل ما تحتضنه من تراث وشعر وأدب وحياة نابضة تجدد الطبيعة العربية وتعيد الشعر خاصة إلى أهله، فكم نحتاج إلى مواسم يعرض فيها الشعراء إنتاجهم وينبرون في إنشاد أشعارهم، فالسوق لها مكانتها التاريخية خصوصاً وأنها بالقرب من مكةالمكرمة التي يوجد فيها البيت الحرام كعبة المسلمين والصلة الروحية بين الأرض والسماء. إنني أرى أن سوق عكاظ يحمل كل الخير للعرب الذين برعوا قديماً في استخدام اللغة ووصلوا بها إلى حد خارق في التأويل والتناغم مع مادتها الثرية، وجاء القرآن ليرقق لغة العرب ويهذب طبائع الناس، ليتواصل هذا الفيض اللغوي الآسر الذي لا ينضب، وهو ما يجعلني أحس بأنني حين أتخذ موقعي على إحدى المنصات في عكاظ بأنني أنشد في حضرة النابغة وأنني أعيش أجواء الحياة الأدبية بكل عراقتها وجمالها الفواح. إن الشعر كان مادة العرب الرئيسة في مجالسهم ونواديهم في مراعيهم وأسفارهم وفي خلوتهم ونظرتهم إلى الحياة، لذا فسوق عكاظ هو تجديد للسيرة الأدبية وبستان عامر بكل ألوان القصيدة التي تتوهج في حضرته وتنسجم مع قدسية المكان في استعادة صريحة للماضي وشعور بالبهجة للسير على مآثر القديم وأخذ أفضل ما فيه، وإذا كانت القبائل كانت تجتمع في سوق عكاظ في الجاهلية لتنشد الشعر وتتفنن في القول، فإنه يحتضن أيضاً في هذا الزمن شعراء وأدباء من كل مكان، وإن كنت أتمنى أن يعكظوا على العصي من دون مفاخرة بكل تأكيد، لأننا نعيش الفخر الأعظم وهو الاحتفاء بالشعر. فالسوق تحمل رؤى مستقبلية تحافظ على روح الأدب وتضيف إليها عبر حضور الأشكال الأدبية المختلفة، وكذلك الخط العربي يعطي هذه السوق زخما أدبيا وقيمة ثقافية كبيرة بخاصة إذا ذهبت الجوائز والألقاب إلى المبدع صاحب التجربة العميقة، في نوع لتقدير أصحاب الإبداعات الكبرى في الأدب، وهو ما يتجلى في مثل في هذه المهرجانات التي لها عطرها الخاص وجمالها الذي لا يحد. ولا أزال أشعر بهذه الروح العميقة التي تتجسد في حضور المبدعين في مكان واحد يلتقون على الكلمة ويودعون بعضهم بعضا على الكلمة، ولا يفوتني أن أشير إلى أن حضور أمير مكة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل ومتابعته للسوق وتكريم المبدعين والالتقاء بهم، هو تكريم للأدب في حد ذاته فهو يمنح السوق زخما كبيراً ويجسد مناخا للتواصل والمحبة والإنسانية في ظلال عكاظ الشعر والأدب. *مدير مهرجان الشارقة للشعر العربي