شاهدت البارحة منظراً لم يعد معتاداً هذه الأيام.. شاهدت مجموعة من كبار السن يجلسون فوق "دكة" أمام أحد المنازل لتجاذب أطراف الحديث.. ذكروني بتجمعات سكان الحواري (أيام زمان) فحزنت على حالنا هذه الأيام.. فأوقات الفراغ اختفت من حياتنا، ولم يعد أهل الحي يتجمعون بهذه الطريقة أمام البيوت أو فوق كراسي العمدة.. لم يعد هناك وقت للتجمع والحديث المباشر وأصبحت حياتنا ركضا سريعا وكلاما من وراء حجاب.. التقنيات الحديثة أخذت من يومنا الكثير فأصبحنا نجلس معها أكثر من جلوسنا مع أحبابنا وأفراد عائلاتنا.. بدأ اقتطاع أوقاتنا بالراديو ثم التلفزيون ثم القنوات الفضائية ثم الانترنت، حتى وصلنا اليوم إلى الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية... حين بُث أول إرسال تلفزيوني في نيويورك بعث عمدة المدينة رسالة لمحطة الإرسال قال فيها: أهنئكم على اختراع أعظم وسيلة لتضييع الوقت.. واليوم يستقطع التلفزيون من حياة الأميركان ثلاث ساعات، ومن حياة الأسبان والطليان أربع ساعات (وأتوقع ساعات أكثر من حياة السعوديين عطفا على قلة وسائل الترفيه وحرارة الأجواء التي لا تشجع معظمنا على الخروج).. أما إن سألتني عن ثاني أعظم شيء يستهلك أوقاتنا سأقول بلا تردد أجهزة التواصل الحديثة.. فنحن نقضي مع الجوال (ويقضي أطفالنا مع الآيباد والأجهزة اللوحية) أكثر من تواصلنا المباشر مع البشر.. وكان مارك زوكربيرج (مؤسس الفيسبوك) قد قال في مؤتمر برشلونة الأخير إن المشتركين يقضون خمسين دقيقة يوميا في تصفح هذا الموقع فقط (دون مواقع التواصل الأخرى). وهذا كثير جدا عطفا على وجود 1,65 مليار مشترك في الموقع وامتلاك البشر 24 ساعة في اليوم فقط.. والحقيقة هي أننا نستقطع من يومنا 8 ساعات للنوم و3 ساعات أمام التلفزيون، وساعة وثلثاً أمام الانترنت وأجهزة التواصل الذكية.. وفي المقابل لا نكاد نخصص شيئا من وقتنا للقراءة أو الحديث المباشر مع أشخاص لا نعرفهم.. حين تفكر برجل تجاوز الثمانين (كالذي رأيته بين المجموعة) تكتشف أنه قضى أكثر من ثلث حياته نائما، وربع حياته يعمل في مهنة أو وظيفة حكومية (قبل أن يتقاعد في سن الستين).. وباستعمال حسابات مشابهة يمكن القول إنه قضى 8 سنوات وثلاثة أشهر في صلاة وتعبد (إذا كان مواظبا على الصلاة في المسجد)، وأكثر من 6 سنوات ونصف في صيام رمضان. وإن كان يقود سيارته بمعدل ساعة في اليوم فهذا يعني أنه قضى أكثر من 3 سنوات من عمره سائقا. أما على مائدة الطعام فيقضي أكثر من 7 سنوات، وفي غرفة النوم (مع زوجته) سنة كاملة! وحسب تصوري سيضطر أبناء هذا الجيل حين يصلون لنفس السن للاختصار أكثر من هذه الأوقات: كون ساعتين أمام الانترنت تسرقان من حياتهم ست سنوات ونصف، ونصف ساعة فقط أمام الواتساب (الذي نعشقه أكثر من الفيس بوك) أكثر من سنة ونصف. هل جربت راحة البال التي ستحصل عليها من إغلاق الجوال لستة أيام فقط؟