الرعاية الصحية الأولية.. هل ترانا نؤديها حقها؟ لا.. لسنا نؤديها حقها كما يجب. لدينا في المملكة أكثر من 2000 مركز رعاية صحية أولية، وهو شيء جيد يحسب للمسؤولين عن الصحة. ولكن كم منها يؤدي دوره كما يجب؟ سؤال حائر. ودعونا نناقش الأمر بهدوء وبموضوعية. لو أنك سألت أحداً من ذوي الدخل المحدود ما هي الرعاية الصحية الأولية؟ لقال لك: هي المركز الصحي الذي في حينا. قد أذهب اليه إذا لم أجد سبيلي الى المستشفى. ولكنني "قسماً عظماً" لذاهب إلى المستشفى ففيه أساطين الأطباء. ولو أنك سألت رجل أعمال أو موظفاً من أصحاب الدخول المتوسطة وما فوق، لقال لك أنا أسمع عن مركز الرعاية الصحية الأولية، ولكني بحمد الله لست في حاجة إليه، فعندي من الوسائل ما يمكنني من الذهاب الى المستشفى، وإذا لم يكن لي متسع في المستشفى الحكومي فالمستشفىات الخاصة مشرعة أبوابها أمامي. لندع هؤلاء جميعاً ونذهب إلى منظمة الصحة العالمية فنسألها عن رأيها في الرعاية الصحية الأولية. نجدها تقول لنا كلاماً مختلفاً. تقول لنا إن الرعاية الصحية الأولية هي حجر الأساس في الرعاية الصحية في أي مجتمع كائناً ما كان، في شرق الكرة الأرضية أو غربها، شمالها أو جنوبها. فمن خلالها يتم الاكتشاف المبكر للأمراض، والوقاية منها قبل حدوثها، وعلاجها. وباختصار تطوير المجتمع صحياً. ولا نصدقها. فنرتفق الطائرة متجهين الى بعض دول العالم المتقدم. أول محطة لنا هي السويد. نسألها ما رأيك في الرعاية الصحية الأولية؟ فتقول لنا أنها في العقود الأخيرة أصبحت هي الأساس في نظام الرعاية الصحية، يوجه لها النصيب الأكبر من ميزانية الصحة. من خلالها استطعنا التحكم في الأمراض المتنقلة وفي كثير من الأمراض المزمنة مثل مرض السكري وأمراض القلب والسكتة الدماغية، وأصبحت وفيات الأمهات والأطفال الرضع لدينا متدنية. وتضيف بأنها تقوم حاليًا بإقفال بعض مستشفياتها لتنشئ بديلا ًعنها مراكز للرعاية الصحية الأولية. ونستطرد فنسألها عن ملامح الرعاية الصحية الأولية عندك فتقول: قمنا بإعداد القوى البشرية الصحية الملائمة. كما قضينا على المركزية وأعطينا مراكز الرعاية الصحية الأولية الحرية في الحركة والإبداع. وفتحنا أبوابها للمجتمع بحيث تخرج بنشاطاتها الى خارج جدران المراكز الصحية، وأشركنا المجتمع في أخذ القرارات، وركزنا على الوقاية والتطوير جنباً الى جنب مع العلاج.. وألتقي ببعض زملائي من الأطباء الذين كان لي شرف تدريسهم ذات يوم في كلية الطب فنتذاكر حواراتنا عن الرعاية الصحية الأولية.. ونتذكر السؤال الذي كنا نطرحه للحوار.. أيهما أصعب إنشاء مركز رعاية صحية أولية يخدم 20,000 نسمة أم إنشاء مستشفى 100 سرير؟ وننتهي من حواراتنا الى أن إنشاء مركز رعاية صحية أولية يؤدي دوره على الوجه الأمثل أصعب من إنشاء مستشفى.. أتعرفون لماذا؟ لأن مركز الرعاية الصحية الأولية يستطيع أن تكون أداة لتغيير صحة المجتمع الى الأفضل. ذلك أن نشاطاته متعددة لا تقتصر على علاج المرضى وإنما تتعدى ذلك الى الاكتشاف المبكر للأمراض والوقاية منها قبل حدوثها وتطوير المجتمع صحياً: له دور الريادة في تغيير السلوك الصحي الى الأفضل بنشر الوعي الصحي. ودور الريادة في تطوير صحة البيئة. ودور الريادة في تصحيح مفاهيم الغذاء الصحي في المجتمع. ودور الريادة في الاكتشاف المبكر والوقاية من الأمراض المتنقلة، والمزمنه. ودور الريادة في رعاية الأم الحامل قبل الحمل، وأثناء الحمل، وبعد الولادة. كل ذلك جنباً الى جنب مع علاج المرضى. يمكننا أن ننتقل بمستوى الصحة في بلادنا إلى مستوى أفضل لو أننا أخذنا على عاتقنا تطوير مراكز الرعاية الصحية الأولية من دورها التقليدي في صرف الدواء للمراجعين. الى مراكز لتطوير المجتمع صحياً. فمن الثابت علمياً أن أكثر من 80% من أمراض المجتمع وأدواؤه يمكن تناولها بالوقاية والتطوير والعلاج من خلال مراكز الرعاية الصحية الأولية. يظل السؤال قائماً. كيف نحيل 2000 مركز صحي أو يزيد في بلادنا من دورها التقليدي البسيط "علاج المرضى" الى هذا الدور الحضاري؟ قبل أن استطرد يجب أن أقول: إن بعض المراكز الصحية لها دور ملموس في الوقاية من الأمراض ولكنها قلة. الطريقة المثلى هي أن نستجيب بفاعلية لمفهوم التحول الوطني الذي نهدف إليه في عام 2030 - وهو ليس عنا ببعيد ويكاد يطرق أبوابنا- وذلك بأكثر من وسيلة: علينا بادئ ذي بدء أن نعود الى مؤتمر منظمة الصحة العامة واليونسيف الذي عقدت في ألما آتا عام 1978 ووقع وثيقته مندوبون من 134 دولة و67 منظمة دولية لنستلهم منها أهداف ونشاطات مراكز الرعاية الصحية الأولية. ومن ثم نعيد النظر في أهداف التعليم الطبي في كليات الطب والعلوم الطبية والمعاهد الصحية لكي نضمن إعداد أفراد الفريق الصحي المهيئين علماً وعملاً للارتقاء بالصحة عامة وبالرعاية الصحية الأولية بخاصة، وليس التركيز على علاج المرض. وأن يعطي المركز الصحي ميزانية وصلاحيات للحركة والإبداع، ويحاسب على النتائج. على أن لا يكون التقييم والمحاسبة بناء على عدد المرضى الذين عالجهم، والأدوية التي صرفها، والتحاليل المعملية التي قام بها. وإنما على معدلات النمو الذي حققها في صحة المجتمع مقاسة بمعايير علمية متفق عليها. وهي معايير موجودة ومعلنه في وثائق منظمة الصحة العالمية. وأن يشارك أفراد من المجتمع مع فريق العمل في المركز الصحي في تخطيط وتنفيذ وتقييم برامج الرعاية الصحية التي يقدمها المركز. ولن يتم ذلك الا بخروج الرعاية الصحية من بين جدران المركز الى الخارج.. الى المجتمع. وقد يرى المسؤولون إعادة تسمية المراكز الصحية الأولية ليصبح أسمها "مراكز الرعاية الصحية الأساسية". ولنا في توجهات ولاة الأمر والمسؤولين عن الصحة والتعليم الطبي وما نلمسه من حرصهم على الارتقاء بالصحة الأمل.. كل الأمل.