من هذا المنطلق فإن الجامعات والمعاهد التقنية عليهما مسؤولية العمل على تهيئة وإعداد رجال الغد كي ينهضوا بالمسؤوليات في مجتمع المستقبل. من المعروف أن عمليات التحديث والنمو الاقتصادي والاجتماعي تحتاج إلى أن يأخذ العلم والتقنية دورهما في أي مجتمع يرنو إلى التقدم والازدهار ويأتي البحث العلمي المزدهر نتيجة تعليم مزدهر فكل منهما انعكاس للآخر كما أن تطور المجتمع وتنميته هو نتاج البحث العلمي ناهيك عن أن أهم المعايير التي تقاس بها عصرية أي مجتمع هي تطوره التقني ومستواه العلمي والتربوي. وعلى العموم فإن أهمية البحث العلمي تظهر جلية في المجتمعات التي لديها مشكلات في قضايا عديدة سواء كانت حياتية مثل الإسكان والتربية وتأمين المياه والزراعة والنقل والبيئة والتلوث والقضايا الأمنية كالحرب والسلام وغيرها ناهيك عن مخرجات التعليم، ومن أساليب الإنتاج والاستهلاك والتسويق بالإضافة إلى التنمية المستدامة والخطط المستقبلية وغيرها من الفعاليات الهامة التي يتمكن البحث العلمي من ايجاد حلول ناجعة لها وجعل التراكم المعرفي لهذه المجتمعات مربوطا بالتطبيق وذلك من خلال تحويل المعرفة إلى منافع ملموسة عن طريق التقنية التي هي أهم عنصر فاعل في الحياة المعاصرة. وهذا ينصب في إطار المعلومة التي تقول «إن الغرض من العلم هو التحكم في الطبيعة وعناصرها لصالح الإنسان». وحقيقة الأمر في الوقت الراهن أن البحث العلمي هو الوسيلة الأكثر نجاحاً لوضع حلول مناسبة للمشكلات التي تواجهها البشرية مثل الجوع والفقر والجهل والمرض وهذا بطبيعة الحال يعني أن التقدم في مجالات البحث العلمي يقود إلى تقليص حجم الفجوة بين الأمم النامية والأمم المتقدمة. لذلك فإن قضية البحث العلمي تحتاج إلى القيام ببحوث مستمرة وشاملة ومتنوعة المداخل ناهيك عن تجديد الأهداف ووسائل المتابعة من أجل الوصول إلى حلول موضوعية ومتكاملة خصوصاً أن أهم عنصر يحكم ذلك هو المهارة والشفافية التي يتمتع بها عنصر العمل. ومن هذا المنطلق فإن الجامعات والمعاهد التقنية عليهما مسؤولية العمل على تهيئة وإعداد رجال الغد كي ينهضوا بالمسؤوليات في مجتمع المستقبل، ولا ادل على ذلك من أن عدد مراكز البحوث والجامعات والمنجزات العلمية والاختراعات التي يتم انجازها ناهيك عن كميات الاستهلاك وعدد المستشفيات تعتبر بمجملها معايير تستخدم في الحكم على درجة رقي الأمم وبدرجات متفاوتة لكل عامل من تلك العوامل. إن دور العلم هو تنوير المجتمعات البشرية للأخذ بأسباب المعرفة والاستفادة منها. أما دور التقنية فهو تطبيق المعرفة العلمية وجعلها في خدمة الإنسان. وحيث إن الأول هو الطريق الممهد للثاني فإن العلوم الحديثة والتقنيات ما هي إلا مخارج للبحث العلمي وخاصة التطبيقي منه وهذا له أثره الواضح في تطور الصناعة والزراعة والطب والهندسة والعلوم التطبيقية الأخرى ومن خلال البحث العلمي تنعم البشرية اليوم بعلوم ومعارف جديدة لم تكن معروفة من قبل كعلم القضاء وعلم الحاسب وعلم الهندسة الوراثية وغيرها مما يوافينا به العلم كل صباح. إن عدم أو قلة ممارسة البحث العلمي أو عدم الاهتمام به تؤثر تأثيراً سلبياً في عملية التعليم الجامعي ومن أهم انعكاسات ذلك قلة المبدعين وزيادة عدد العاطلين عن الإبداع داخل الحرم الجامعي وخارجه وهذا هو الحال في جامعات الدول النامية التي أصبحت مراكز لتفويج الخريجين غير القادرين على تلبية متطلبات سوق العمل. والتي كان يجب أن ينظر إليها على انها رافد أساسي من روافد التنمية. ذلك أن الجامعات في الدول المتقدمة تزود خطط التنمية بالكفاءات القادرة على تنظير وتنفيذ المشروعات التنموية ناهيك عن تزويد المجتمع بالمؤهلين مهنياً من خلال صقلها خريجيها وتدريبهم على أسس ومتطلبات سوق العمل وكذلك على أسس وأساليب البحث العلمي ناهيك عن تقديم الدورات التدريبية التي أصبحت ضرورة لكل خريج حديث ليواكب كل مستجد في علوم تخصصه بعد تخرجه في الجامعة. إن التقدم العلمي والتقني ومستجداتهما المتسارعة التي نشاهدها كل يوم وكذلك سلاحهما البحث العلمي وتطبيقاته التقنية تعتبر قضية عالمية تسعى جميع دول العالم إلى الإمساك بزمامهما. وأمام هذا التنافس العالمي الكبير في مجال التعليم والبحث العلمي والتقدم التقني السريع ومتطلبات سوق العمل الجديدة فإنه من المؤسف أن نجد أن الدول العربية في مستوى متدن فيما يخص مستوى التعليم والبحث العلمي وذلك من حيث الكيف والكم. وهذا ما سوف يؤخر هذه الأمة عن اللحاق بالركب العالمي المتسارع مما يجعل هذه الأمة تستمر سوقاً استهلاكية لما تنتجه الدول المتقدمة بل أكثر من ذلك محلا لتجاربها واستعمال سلاحها ومدفن نفاياتها ونهب ثرواتها وإلصاق تهمة الإرهاب بها وبأبنائها ناهيك عن سرقة أرضها وانتهاك مقدساتها ووصف صاحب الحق بالإرهابي والمعتدي بحمامة السلام وجالب الديمقراطية على ظهور الدبابات بالمتحضر وغير ذلك من المفارقات التي سببها الأول ضعفنا وعدم القيام بما يجب علينا اتجاه احترام أنفسنا أولاً وتعزيز هذا الاحترام بالعلم والمعرفة. وعلى أية حال فإن علينا أن نعي أن قضية نقل التقنية تفرض ضرورة الإلمام مسبقاً بحقائق النظام التقني الدولي من حيث كونه جزءاً من النظام الاقتصادي العالمي وذلك يعني القدرة المستمرة على تحويل المعرفة العلمية التي نحصل عليها من الآخرين إلى تقنية إنتاج تم تطويرها بمعرفتنا ومهاراتنا وإمكانياتنا الذاتية، وهذا هو المفتاح الذي سوف يجعلنا قادرين على الاستمرار في الإبداع وتكوين منظومة متجددة وأجيال متعاقبة من التقنيات دون الحاجة إلى استيرادها من الخارج بل ابعد من ذلك تصديرها إلى الآخرين الذين لا يمانعون من تبادل الخبرات والتقنيات، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي يجعلنا اقدر على مواجهة تحديات القرن الجديد خصوصاً اننا نواجه عدواً تسلح بالعلم والمعرفة وجعل جميع فعالياته نتاجاً للعلوم والتقنية سواء في المجالات المدنية أو العسكرية. ونعيد هنا القول بأننا لا يمكن أن نتقدم تقدماً حقيقياً وليس ظاهرياً باستخدام التقنيات المستوردة وهذا يحتم علينا أن نقوم بتطوير قدراتنا في هذا المجال وتطويع وتنمية جميع ما نحتاجه من التقنيات محلياً مع الأخذ بنظام الجودة الكاملة والتفوق النسبي، فاكتشاف الجودة هو دور العلم وابتكار الوسائل هو دور البحث العلمي. وهذا بمجمله يعني تبني سياسات علمية جديدة تحقق أقصى استثمار ممكن لإمكاناتنا من العلماء والباحثين والمراكز والمعاهد البحثية والذي ينقصنا نستطيع ايجاده بالمال، فالمال إذا وجد طوع المستحيل وهو اليوم موجود. وهذا يعيدنا إلى المربع رقم واحد والذي تبدأ من عنده كل الفعاليات الأساسية واعني أن ايجاد الكوادر القادرة هي مسؤولية المؤسسات التربوية والتي عليها إعداد وتخريج كوادر مدربة علمياً وتقنياً. إن الوعي والإدراك وتحمل المسؤولية وفهم خطورة المرحلة القادمة وابعد من ذلك فهم من لم يعزز قدراته ويحمي نفسه واستغلاله بالعلم والمعرفة فإنه سوف يداس بالحوافر والأقدام وما الهجمة الصهيونية على المنطقة إلا نتاج تآمرهم وحماية مصالحهم من جهة وتخلف هذه الأمة وعدم تحملها للمسؤولية وابعد من ذلك تناحرها وارتمائها في احضانهم نكاية ببعضهم البعض وهذا كله نتيجة الجهل والتنافس غير الشريف وعدم الثقة بالنفس ناهيك عن الحسد الذي يفسد الود ويفرق ولا يجمع وهو مفتاح كل شر وتخلف. ومع هذا التخلف وهذه السلبيات لا يزال باب الأمل مفتوحا لمن يريد أن يصنع مستقبلاً زاهراً خصوصاً أن البنية التحتية موجودة ولا تحتاج إلا إلى قليل من الجهد المخلص ناهيك عن التكامل بين أقطار هذه الأمة في البرامج العلمية والبحثية ناهيك عن التكامل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفعاليات الأخرى التي تعزز وتقوي من قدرتها على المواجهة خصوصاً في ضوء منظمة التجارة العالمية التي بدأت معالم الغرض من إنشائها تتضح والذي يتمثل جزئياً في ارغام بعض الأطراف على التكامل مع أطراف أخرى لا يرغبها وذلك حتى يتمكن من الوصول إلى أسواق الطرف الثالث وخير مثال على ذلك عدم تمكين سلع بعض الدول من الوصول إلى الأسواق الأمريكية أو الأوروبية إلا إذا كانت تحمل نسبة من المشاركة مع إسرائيل وعلى أية حال فإن القادم اعظم فالأيام تلد كل غريب. إذاً من لم يسلح نفسه بالعلوم والتقنية والبحث العلمي سوف يصفع ويداس وسوف تفرض عليه أجندة لا يرغبها ولكنه سوف يضطر إلى القبول بها لذلك فإن استخدام البحث العلمي في ايجاد المخارج للمشاكل القادمة يجب أن يبدأ من الآن وليس غداً. إن مراكز الأبحاث ومراكز الدراسات الاستراتيجية هي العيون التي يجب أن نبصر بها ونحل بها مشاكلنا الداخلية والخارجية وخير مثال على الاستفادة من العلم والبحث العلمي ما حققته كثير من الدول المرموقة اليوم مثل اليابان من الدول المتقدمة وماليزيا من الدول النامية التي وضعت يدها على البلسم وامسكت به وقررت المضي فيه. فدولة مثل اليابان ليس لديها أي موارد طبيعية لذلك فهي تستورد كل شيء تقريباً ثم تصنعه وتبيعه وهذا كله بفضل تسلحها بالعلم والمعرفة الذي مكنها من أن تغزو أسواق العالم بتقنياتها المنافسة وجودتها الراقية ثم تلتها كوريا وتايوان واليوم نشاهد الصين تسابق الزمن لتصل بضاعتها كل سوق في مشارق الأرض ومغاربها وبكل أنواع الجودة الرخيصة منها والعالية الجودة كما ادركت دولة صغيرة مثل ماليزيا أهمية ذلك فوضعت اقدامها على الطريق الطويل والشاق ولكنه الطريق الصحيح والمربح والاستراتيجي. نعم نعلم أن تلك الدول بعيدة عن مركز الصراع في الشرق الأوسط الذي بليت هذه الأمة به ولكن كان من الأجدى والأحرى أن يكون ذلك الصراع من العوامل المحفزة لهذه الأمة أن تأخذ بأسباب التقدم وتوطين التقنية أكثر من أية أمة أخرى لأنها بحاجة ماسة إليها وذلك لأن الأعداء لن يمكنوها من أي سلاح يمكنها من الدفاع عن نفسها ضدهم، فهؤلاء الأعداء لديهم مطامع كثيرة في هذه الأمة. ومن ذلك الموقع الاستراتيجي والثروات الطبيعية ناهيك عن انها تملك عقيدة لو تمسكت بها وطبقتها بصورة صحيحة لأصبحت أقوى الأمم ذلك أن الإسلام يدعو إلى كل فضيلة ويعتبر طلب العلم جهاداً في سبيل الله وكذلك إعداد القوة اللازمة للدفاع عن النفس. إن سلوك دروب التعليم والبحث العلمي جهاد في سبيل الله لم لا ونتائجه تحمي الأمة من مكائد أعدائها وتصنع لها هيبة بين الأمم الأخرى وترفع من مستوى معيشتها وتعزز أمنها وانتماءها وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وفي كل خير» الحديث. وفي الختام لا يسعنا إلا أن نقول إن الانفتاح على علوم وتقنية الشرق له أهمية كبيرة لا تقل عن الاهتمام بتقنية وعلوم الغرب. ومن هذا المنطلق فإن زيارة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - إلى كل من الصين والهند وماليزيا وباكستان لها أهمية كبيرة في فتح مجالات أوسع وأرحب سواء فيما يتعلق بالاقتصاد والاستثمارات المشتركة أو فيما يتعلق بالتعليم والبحث العلمي أو فيما يتعلق بتبادل الخبرة في مجال توطين التقنية والتعليم الفني أو غيرها مما سوف تحققه هذه الزيارة الميمونة التي علينا أن نستفيد منها إلى ابعد الحدود. إن التوازن الاستراتيجي الذي تسعى المملكة إلى تحقيقه بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - سوف يكون له أثر بالغ في تعزيز السلام والأمن في منطقة الشرق الأوسط والعالم اجمع. سدد الله خطى مليكنا المظفر بإذن الله إلى كل خير وسؤدد. والله المستعان.