ذات يوم وبينما كنت أجول في أرجاء بيتنا العامر مررت بمرآة فاستوقفني منظر غريب قد ظهر على صفحتها ولما دققت النظر رأيت بريقاً يلمع في رأسي ولما دققت أكثر وأكثر اكتشفت أن ذلك الشيء كان عبارة عن شيبة تعلو مفرقي الأسود وكأنها نجمة شديدة البياض في سماء صافية حالكة السواد. راعني وأدهشني ما رأيت فكما قيل الشيب بريد الموت ثم إنني مازلت بعد في ريعان الشباب وسني هذا ليس سنا لظهور الشيب أبداً، باختصار شديد لقد كان هذا المنظر بمثابة صفعة أو لكمة قوية وجهت إلي. اقتربت من المرآة أكثر وأكثر، طلبت من الشيبة أن ترحل وتزول ولكن لا حياة لمن تنادي، طلبت من الشيبة وللمرة الثانية أن تذهب وتعيد المياه إلى مجاريها ولكن للأسف كأنني لم أقل شيئاً أو كأنها لم تسمع شيئاً. فكرت في الأمر ملياً، ماذا أفعل هل أتركها؟ ولكني أخشى إن تركتها أن تستدعي أخواتها الأخريات فيعثن في شعري فساداً ودماراً. أم أزيلها وأنتفها وأتخلص منها. ثم أرسيت رأيي على الخيار الثاني وهو الخيار الذي رأيت أنه هو الخيار الصائب ألا وهو إعلان الحرب على هذه الشعرة وإبادتها عن بكرة أبيها. استجمعت قواي ورفعت يدي اليسرى ولكني لم استطع أن أرفعها أعلى من حد الكتف فأعدتها إلى مكانها، ثم استجمعت قواي للمرة الثانية ورفعت يدي اليمنى هذه المرة ومددت كفي نحو الشيبة ولكنني لم أستطع لشدة ارتعاش يدي التي وعلى غير العادة أبت أن تطيع أمري هذه المرة ولسان حالها يقول: (لا لن أطرد من حل بأرضنا ضيفاً)، أعدتها مرة أخرى إلى مكانها. ثم حزمت أمري مرة أخرى وعزمت على رفع يدي وعدم إعادتها إلا والشعرة حبيسة بين أناملها، ومرة أخرى أرفع يدي نحو الشعرة ولكن هذه المرة كانت يدي أكثر ثباتاً وأقل ارتعاشاً من سابقتها، استطعت أن أحدد موقع الشيبة ثم أهويت كفي وجعلته ينقض عليها وجذبتها إلى الأعلى بشدة ونتفتها ثم قربتها من عيني وأنا أردد بداخلي أهازيج الفرح وأغنيات البهجة ولكن يا للمفاجأة لم تكن تلك هي الشعرة المقصودة بل كانت شعرة سوداء عادية، أعدت نظري إلى المرآة لأرى تلك الشيبة وهي لاتزال مستمرة في لمعانها وبريقها وكأنها تقول: (لاتحاول... سلم للأمر الواقع). أبت نفسي التي لاترضى بالهزيمة ولاتقبل بالذل إلا التخلص من الشيبة مهما كلفني الأمر، وأعدت الكرة مرة أخرى ولكن هذه المرة حددت الهدف بشكل أفضل ودقة أكبر ثم أهويت يدي للمرة الثانية ولكن هذه المرة استقرت يدي في المكان الصحيح والموضع المطلوب... الشيبة، ثم أمسكت الشيبة بأطراف أصابعي مع مساندة لابأس بها من الأظافر ثم أحكمت عليها الوثاق وضغطت عليها وسحبتها محاولاً نزعها ومهيئا نفسي لمقاومة عنيفة ودفاع مستميت من قبل هذه الشعرة المتمردة ولكن ياللغرابة لقد زالت الشيبة دون أدنى مقاومة أو ردة فعل ولو يسيرة، تعجبت في بادئ الأمر ولكن العجب تلاشى وزال لما أن قربت الشعرة من عيني حتى إني لم أستطع منع نفسي من الضحك الساخر الذي يعبر عن سذاجتي المتناهية إذ لم تكن تلك الشيبة التي نغصت علي يومي ذلك سوى خيط أبيض علق بشعر رأسي، عندها أحسست بفرحة غامرة ونشوة وجدانية داخلية ورميت الخيط الذي ربطت فيه جميع همومي وخوفي الذي واجهني خلال مقابلتي لذلك الزائر الثقيل جداً، ثم مضيت متابعاً جولتي في أرجاء المنزل.