نحن في حاجة لسبر غور الأدبيات التاريخية الصينية لسببين: الأول انها تعيننا على معرفة طرائق تفكير الصينيين عندما يتناولون تاريخنا. وثانياً أن بيننا وبينهم قواسم مشتركة لعل من أهمها وجود ملايين من المسلمين في القارة الصينية. يقوم هذه الأيام الملك عبدالله بن عبدالعزيز بزيارة للصين والهند وباكستان وماليزيا. وقد وصفت الصحف العالمية الزيارة الملكية بأوصاف منها انها زيارة تاريخية أو زيارة فائقة الأهمية. وهذا وصف صادق. وقد رأيت وفداً مدنياً سعودياً من الأكاديميين والمثقفين يزور هذه البلدان الشرقية متزامناً مع زيارة الملك. وقد أكبرت هذه الخطوة وهذه اللفتة. وكنت منذ زمن ليس بالبعيد قد كتبت في هذه الجريدة عن أهمية تواصل المتخصصين السعوديين مع نظرائهم في كل من الصين والهند وبلدان الشرق الأقصى. لقد سمعت أن الصين لا تعرف عن السعودية إلا انها بلاد النفط وحسب. ولا ضير في ذلك ولا تثريب. ولكن كم نعرف نحن أصحاب الاختصاص في المملكة عن الصين بلاداً وحضارة وشعباً، ناهيك عن عامة الناس التي لا تعرف عن الصين إلا المنتجات ذات الجودة الضعيفة. الصين مارد شرقي قادم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. مارد اقتصادي وبشري وصناعي وزراعي واستراتيجي. وهي فوق ذلك ستصبح مارداً سياسياً يحسب له ألف حساب. الفرق هنا في العقلية والتفكير الصينيين. وهما لا يهتمان الآن بما وراء حدود القارة الصينية. وفوق ذلك فالصين تتبع استراتيجية منذ ماوتسي تونج تقول بالبناء الداخلي وترك ما وراء الحدود لحين. أما هذه الحين فقد بدأ ولكن على الطريقة الصينية. تداعت هذه الأفكار وأنا أشاهد محطات التلفاز تنقل لنا من أرض الصين أشياء ما كنا نعرفها عن الصين البتة. والسبب أننا أدرنا ظهرنا للصين، وتوجهنا صوب الغرب الأمريكي والأوروبي. وهو عمل لا غبار عليه لو كنا نوطد في الوقت نفسه علاقتنا الثقافية والعلمية والصناعية والزراعية مع الصين وغيرها من بلاد الشرق. لقد سألت نفسي سؤالاً عن مصادر تاريخنا العربي والإسلامي في الصين، وكيف كتب الصينيون عنا، وماذا كتبوا؟ وأسئلة كثيرة من مثل هذه الأسئلة تطرق فكري. نحن نعرف ان الاستشراق الروسي قبل الثورة البلشفية وبعدها كتب عن السعودية. ولعل كتاب فاسياييف المعنون بتاريخ العربية السعودية الذي صدرت طبعته العربية الأولى سنة 1986م عن دار التقدم في الاتحاد السوفييني أشهر كتاب تاريخي عن السعودية، وهو كتاب أرهق فاسيلييف نفسه به، وتعسف في تفسير كثير من الحوادث التاريخية من منظور مادي، وهو بهذا يتسق مع التوجه الشيوعي إبان الحقبة السوفيتية. وبعد تلك الحقبة أعاد فاسيلييف نشر كتابه هذا وغيّر فيه وبدّل فيه، وجاء بتفسيرات لا تشتط كثيراً، ولا تبعد النجعة من منظور مادي صرف. أقول هذا الكتاب لا يوجد في الصين، وليس من الكتب المعتبرة. مع العلم أن الصين تشترك مع روسيا آنذاك في فلسفة سياسية واحدة. نعم للصينيين منهجهم التاريخي عند كتابة تاريخ الشعوب. وهم نشروا عن تاريخ المملكة الحديث، وجل ما اعتمدوا عليه هما: المصادر العربية القريبة من الحدث، والمصادر الصينية المعاصرة. أغلب الوثائق الصينية وهي كثيرة عن السعودية جاءت عن تقارير كتبها مبعوثون صينيون في بغداد والقاهرة ودمشق وبيروت وطهران. لقد رأيت نزراً يسيراً من تلك الوثائق، وأهم ما لفت انتباهي قلة اعتمادهم على التحليلات الغربية. لديهم استقلالية فكرية عجيبة. وهذا ما يحمد لهم. فقد حمتهم هذه الاستقلالية الفكرية من الوقوع في التعميم الغربي الذي طبع صفحات التاريخ العربي. نحن في حاجة لسبر غور الأدبيات التاريخية الصينية لسببين: الأول انها تعيننا على معرفة طرائق تفكير الصينيين عندما يتناولون تاريخنا. وثانياً أن بيننا وبينهم قواسم مشتركة لعل من أهمها وجود ملايين من المسلمين في القارة الصينية. هؤلاء المسلمون الصينيون غير المؤدلجين دينياً نافذة مشرعة تستطيع السعودية الولوج منها إلى عالم الصين العجيب. وفوق هذا فنحن ملزمون بتوطيد علاقات استراتيجية مع الصين، ولا نستطيع ان نفعل هذا معتمدين فقط على المصالح الاقتصادية على كبر أهميتها، بل لابد من تمتين علاقاتنا العلمية والثقافية. وفي هذا الشأن فإنني اقترح وبقوة أن تقوم إحدى جامعاتنا بإنشاء مركز متخصص للدراسات الصينية. وهو مركز لا يحتاج إلى كثير من الجهد والمال. فنستطيع استقدام علماء صينيين مسلمين بأسعار متواضعة للعمل مع سعوديين من الأكاديميين والمتخصصين في الشأن الصيني لغة وحضارة وتاريخاً. وهذا يتطلب التوسع في دراسة اللغة الصينية، ويتطلب إرسال بعثات على مستويات مختلفة منها في حقل الدراسات العليا، ومنها في المعاهد الصينية الكثيرة التي تدرس التقنية الحديثة . لقد اطلعت على شيء يسير من مصادر التاريخ الصيني وأعجبني التواضع العلمي، وأعجبني البعد عن التعسفية التاريخية التي تسود في المناهج الغربية. الفكر الصيني لا يتميز بظاهر الاستعلاء الفكري أو الفلسفي، والسبب ان حضارة الصين العريقة التي تمتد إلى الخلف أكثر من سبعة آلاف سنة، حضارة إنسانية بسيطة، تعلي من شأن الإنسان، وهي حضارة لا تتسم بالتعصب الديني الموجود في بعض الحضارات العالمية. كما ان الحضارة الصينية تشجع على قبول الآخر، ولكنها صارمة عندما يحاول هذا الآخر اختراق حدودها الفكرية بالقوة. وهذا سبب من أسباب انتشار الإسلام في الصين، فهو لم ينتشر لأن مجاهدين دخلوا الصين يحملون السيف والمصحف. ولو حدث هذا لما آمن صيني واحد بالإسلام. ولكن الإسلام دخل إلى قلوب وعقول بعض الصينيين بالتي هي أحسن. قابلت بعض المتخصصين الصينيين في تاريخ الشرق الأوسط ووجدت لديهم إلماماً لا بأس به عن مصادر تاريخ المنطقة، ووجدت لديهم رغبة قوية في التواصل العلمي. والمشكلة ان قليلاً منهم يجيد اللغة العربية أو الإنجليزية، وهما اللغتان اللتان كتب ويكتب بهما معظم مواد تاريخ الشرق الأوسط. لهذا خطر ببالي أن تقوم إحدى المؤسسات العلمية في بلادنا بترجمة بعض أمهات مصادر تاريخنا المعاصر، وبعض أمهات مصادر التاريخ الإسلامي إلى اللغة الصينية. ويمكننا أن نشجع تبادل البعثات على مستوى الأساتذة والطلاب. لقد خطر ببالي مثلاِ اعطاء منح لعدد من الطلبة الصينيين لدراسة التاريخ والأدب العربي واللغة العربية في جامعاتنا. الحديث ذو شجون، وأحسب ان الزيارة الملكية الحالية تحمل في طياتها مشاريع اقتصادية وسياسية وثقافية وأكاديمية تجعل من الصين في المنظور القريب أقوى حليف استراتيجي شرقي للسعودية. والله أعلم.