يتكشف فعل خديجة رضوان الله عليها عند استقبالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يستقبل الوحي، حيث استقبلته برؤية الناظر إلى المستقبل، الكاشف لصفحاته، المصدق لما يخبر به صلى الله عليه وسلم، والعازم على تحمل نتائج ذلك، يأتي رسول الله جبريل في الغار، فيعود إلى بيته الذي تعمره خديجة، دون غيره من بيوت السادة من قومه، فتكون حاضنة السر، وحاملة البشارة والاطمئنان إليه. هنا ينصت التاريخ إلى صوت المرأة وهي تروي فعلها، حيث تروي هذا الخبر عن بدء الوحي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيتعانق حضور السيدتين في هذا الخبر الفاصل في تاريخ مكة، المعلن للنبوة ولبدء الرسالة الخاتمة، هذا الخبر الذي تحضر فيه خديجة بتدبير إلهي ليكون طرفا البيت النبوي محمد وخديجة ماضيين في طريق تبليغ ما أراده الله عز وجل، الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل الوحي، وزوجه خديجة يتجلى استبصارها، وما وقر في قلبها من تصديق الخبر عما قدمته من سند للدعوة في البشارة والطمأنة. لنستمع إلى ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها حين تقول: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الاكرم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني، زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكْسب المعدوم، وتقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق). فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى قال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيَّ هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومُك انصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي. في هذا الخبر تبدو السيدة خديجة غير متفاجئة بالخبر، وكأنها على يقين بالنبوة لتبشره، فتقول قولتها المشهورة (كلا والله ما يخزيك الله أبداً) ثم تذكر تلك الصفات النبوية التي تجعل النبوة سلوكاً قويماً يمشي بين الناس بالحق، فتستثمر هذا اليقين، وصلتها بمن له خبر بالأنبياء ابن عمها ورقة بن نوفل، فتمضي بمحمد بن عبدالله إليه فيحكي له الرجل بما يستشرفه، وهنا نجد تفكير بنت خويلد خارقاً لحال المتلقين لذلك الخبر، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم عاينه مباشرة، ولكنه كان بحاجة إلى الاطمئنان والتصديق، وورقة بن نوفل لديه اتصال بحال النبوات قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أما خديجة فحالها عجب، لم تتلق ولم يكن لديها اتصال، لكنها أذعنت لتصديق الحبيب زوجها محمد صلى الله عليه وسلم، وما وقر في قلبها من حب الله له، وما تستشرفه من تغير في نمط الحياة السائد بين قومها، فكان عقلها العقل المنفتح للنبوة وللتغير قبل الرجال، ومن ثم نستطيع أن نقول إن المرأة ممثلة في خديجة هي حاضنة الرسالة والنبوة قبل الرجال. وإنا لنجد تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم وامتنانه لهذا الصنيع من خديجة حين قال عنها كما جاء في مسند الامام أحمد (آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرم ولد غيرها)... انظر إلى حضورها ازاء غياب الآخرين، هذا الحضور المتميز لها في الإيمان والتصديق، وإشراكها الرسول صلى الله عليه وسلم في مالها يجعلها ويجعل فعلها هو الفعل المتحرك ازاء ذلك الفعل الناكص السلبي من قبل الآخرين، حيث كانت هي التي امتازت فسبقت وآمنت.