كان ومازال الحوار الثقافي.. مؤشراً على وعي الأفراد والمجتمعات والدول.. وبقدر ما تصل فيه التكتلات البشرية إلى قناعات وقرارات يفرزها الحوار، بقدر ما يكون ذلك دليلاً على الارتقاء واحترام الرأي والتلاحم بين مركبات الأمة أفراداً وجماعات ومؤسسات.. فاللقاء الخامس للحوار الوطني «نحن والآخر»، والذي عقد في مدينة أبها، كان معلماً رئيسياً دشن فيه الشعب السعودي ممثلاً بعلمائه ومفكريه ومثقفيه من الجنسين مدعوماً بقيادته الرشيدة، دشن مرحلة جديدة واعدة في التعاطي مع قضايا الأمة بأسلوب فكري هادئ بعيد عن المزايدات أو الاملاءات أوفرض القرارات. وعندما يكون الاختلاف في الثقافات أو الأفكار اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فانه اثراء للوطن، وتعزيز لوحدته ومسيرته، وتوثيق وتأصيل لخطابه الموجه للآخر أينما كان الآخر وكيفما كان. إن قوة الأمم تأتي من ادراكها لمركبات القوة الذاتية فيها، فاذا نجحت الأمة في توجيه التنوع الثقافي لها في تمتين وحدتها وتأصيل خطابها مع الأمم الاخرى، فحينها يكون العنوان وحدة (في الهدف) وتنوع (في الثقافات والوسائل)، بحق هو عنوان واسع وشامل لطاقات أمة قوية وفاعلة. وعندما لا تنشأ الشعوب على قبول التنوع الثقافي، فإنها غالباً ما تتجه إلى التخندق والتأزم والاحتقان، وهذه العوامل منفردة أو مجتمعة كافية لاضعاف الأمة، وتهيئة بذور الفتنة والفرقة وربما تحريك كوامن التطرف والعنف. إن من مزايا الحوار الثقافي هو الحث على التفكير والإبداع واستعمال العقل والمنطق والسعي إلى إقناع الآخر بالحجة والدليل، كما انه يوطن الإنسان على الإنصات لحجج الآخرين والتفكير المتأني فيها، وقبولها أو رفضها أو تعديلها بكل تسامح، وبالمنطق والبرهان. وتمتاز ثقافة الحوار بأنها ضد ثقافة آحادية الرأي، وإلا لما كان هناك حاجة للحوار أساساً، وثقافة الحوار ضد مصادرة حقوق الآخر، وتحمل في طياتها الاعتراف بالآخر والنظر بعين التمعن والاحترام لطروحاته ومقاصده.. فهي ضد الاقصاء.. كما أن من أدبيات ثقافة الحوار، البعد عن الحدة في الطرح، واتهام النوايا، وشخصنة النقاش، كما أن الفوقية مستهجنة ومرفوضة في بيئة الحوار. وكم كنت مسروراً حينما سمعت خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يقول لنا أثناء لقائنا به في نهاية فعاليات اللقاء الخامس للحوار الوطني، يقول بإخلاص وبساطة وأبوية: «لست خطيباً.. وإنما أحدثكم من القلب إلى القلب، وأنا سعيد لأن الحوار دخل في كل بيت».. هذا يعني أن القيادة العليا للوطن مدركة تمام الإدراك لأهمية تجذير ثقافة الحوار، وبثها في المجتمع، وادخالها إلى الوحدة الأساسية في تكوين الوطن، ألا وهي الأسرة، وذلك من خلال نقل جلسات ومداولات اللقاء الخامس كما هي حية على الهواء، لكي يسمعها ويشاهدها كافة المواطنين، الصغير والكبير، في المدينة وفي القرية، المتعلم ذو الثقافة العالية والإنسان البسيط، الآباء والأبناء، النساء والرجال. إذاً نحن أمام انفتاح ثقافي، وشفافية في الطرح، وموضوعية في الرؤيا، واهتمام بكافة مكونات هذا الوطن، والإدراك بأن القناعات الفاعلة والباقية لابد أن تنبع من الأفراد وأن تتبناها الأسرة..، وأن تكون ثقافة الحوار هي من سمات الفترة القادمة، وهي لغة التعامل، وأن هذه الأمة تخطو خطوات حضارية واثقة، نحو التفاهم الايجابي الفعال ونشر أجواء التسامح والمحبة، وأن الوطن للجميع، ما دام الجميع يعملون مخلصين لعزه ومنعته وقوته، فلا مكانة بعد الآن لتكميم الأفواه، أو مصادرة الكلمة، أو التقوقع والانكفاء، أو الاقصاء والفوقية. إن توفير وبسط ثقافة الحوار في المجتمع، ستعود على الجميع بالخير، وعلى الوطن بالتقدم والنمو، وفي كافة الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. نحن في هذا الوطن، ولله الحمد، نحظى بفرص تاريخية عظيمة، أولها قيام هذا الكيان الكبير الموحد، وثانيها قيادة وطنية مخلصة، وعقيدة سماوية سمحاء ترفرف على هذا الكيان منذ قيامه المبارك، وقدرات بشرية وثروات طبيعية قد لا تتوافر لأمم كثيرة على هذا الكوكب، علينا بالعمل لبناء حاضر مزدهر ومستقبل واعد، قائم على التفاهم والوعي والتخطيط العلمي في مجالات التنمية الواسعة، وأن نكون نموذجاً يحتذى به، لدولة عصرية، قوية بأبنائها وثقافتها واقتصادها وسياستها، ومناهج تعليمها، وعلاقاتها بالآخر، أن نقدم إلى أبنائنا وأجيالنا القادمة تنمية مستدامة، وأن نكون كما قال الشاعر: نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) مافعلوا حيث قام الملك عبدالعزيز - رحمه الله - باستبدال كلمة (مثل) بكلمة (فوق) عندما رأى هذا البيت مكتوباً على جدار أحد المنازل في مدينة الرياض. إن الصراع الحضاري القائم الآن، ومحاولة بعض القوى العالمية توظيف أو خلق الأزمات في العالم وإدارتها، بحيث تضمن لها التدخل في شؤون الآخرين، لن يقف أمامها الا التفاف الشعوب حول قياداتها، وقوة انتماء المواطن إلى وطنه، انتماءً واعياً أساسه الاحساس بالعدالة وتمتعه بالحرية، وتمكينه من الإسهام في بناء وطنه واتاحة الفرصة للجميع، والاستفادة من الطاقات البشرية المبدعة في هذا الوطن، تنوع في الرؤى.. ووحدة في الهدف.. والله من وراء القصد. ٭ أكاديمي واستشاري في الطاقة وتقنية المعلومات