يوم عرفة يوم عظَّمه الله وشرفه وذكره باسمه في كتابه فقال سبحانه: {فإذا أفضتم من عرفات} الآية.. وهو أفضل أيام العام، ومن فضل هذا اليوم أن الله أقسم به في القرآن، حيث قال سبحانه: {وشاهد ومشهود} فالشاهد والمشهود قيل هو يوم عرفة، وقيل: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.. وقيل غير ذلك.. فيوم عرفة مشهود لأن الملائكة تشهده وتنزل فيه بالرحمة.. يوم عرفة هو اليوم الذي أخبر الله فيه بكمال الدين لعباده واتمام النعمة عليهم، حيث قال سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}، فهذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة، وهذا ثابت في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. يوم عرفة هو يوم العتق من النار، ففي صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء». فالله جل وعز، يثني على عباده في هذا الموقف عند ملائكته ويعظمهم، وفي هذا تذكير للملائكة بما لهؤلاء من الأجر عند ربهم. كما جاء في مسند الإمام أحمد حديث: «إن الله عز وجل يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل الأرض، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً»، وفي رواية عند ابن حبان: «انظروا إلى عبادي شعثاً غبرا ضاحين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ أكثر عتيقاً من النار من يوم القيامة» وفي رواية ايضاً عند ابن حبان وابن خزيمة في صحيحه، يقول الرب جل وعز: «أُشهدكم أني قد غفرت لهم». إن هؤلاء الحجاج الذين وقفوا في عرفات هم ضيوف الرحمن، ووفد الله، خرجوا من أوطانهم، وفارقوا أهليهم ولذاتهم، وتعرضوا للمشقة والتعب، قد أغبرت رؤوسهم، وتعبت أبدانهم، يبتغون مرضاة ربهم، ويمتثلون أمرهم، فأكرمهم ربهم وخالقهم بمغفرة ذنوبهم.. فهو يوم الرحمة ويوم المغفرة ويوم العتق من النار. إن الوفود القادمة من أطراف الأرض على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها تجتمع في يوم عرفة، وتنطق بشعار واحد، يترجم عما في نفسها، تنطق بكلمة التوحيد، وتلبي بتلبية تهز الأودية، تعلن فيها التوحيد، الخالص لله، وتنفي كل معبود سواه. يوم عرفة يومٌ معظم في دين الإسلام، فهو عظيم في مظهره ومعناه، لا تسمع فيه إلا تأوهات التائبين، وأنين الخاشعين، وبكاء الخائفين، وضراعة المفتقرين، ورغبة الوجلين، وتعلق القلوب برب العالمين، إنها القلوب المستجيرة بربها، المؤملة في خزائنه التي لا تفيض، ورحمته التي وسعت كل شيء. سوف ترى في يوم عرفة نفوساً تجأر إلى الله بقلوب وجلة، ودموع مستبقة، أمام رب واحد يسألونه، وقد لاح عليهم الفقر إلى عطائه، والحاجة إلى إحسانه، والترقب لرضوانه. ما أسعد الواقفين في عرفة عندما يتوجهون إلى ربهم بطاعته، ما أسعدهم يوم يطلع عليهم أرحم الراحمين، ويُباهي بجمعهم أهل السماء ويدنو جل وتقدس، ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ وهو أعلم بهم.. فينالون الرضا والرحمة من ربهم يوم يقول لهم: أفيضوا مغفوراً لكم. ليوم عرفة خصوصية في فضل الذكر والدعاء، ففي موطأ مالك عن طلحة بن عبيد الله مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وفي مسند احمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جله، قال: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأخرجه الترمذي بنحوه. ونلحظ أن هذا ذكر وليس دعاء، وتسميته دعاء لأن الثناء على الله جل في علاه من العبد الفقير المحتاج، تعرض لقضاء الحاجات بأبلغ وجه، فهو شكر وتمجيد وثناء على المنعم سبحانه، يستجلب المزيد فهو في معنى الدعاء. فينبغي للعبد المسلم الإكثار من ذكر شهادة التوحيد بإخلاص وصدق لأنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله في ذلك اليوم. ومن خصوصية يوم عرفة حث الشارع على صيامه وهذا لغير الحاج فقد حرَّج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية» فما أعظمه من فضل؟ أن يكون صيام يوم واحد يكفر سنتين، إن هذا الحث والترغيب في صيامه يدعو إلى استنهاض الهمم في معرفة هذا الفضل والتسابق فيه. حري بالعبد الطامع في فضل ربه أن يغتنم يوم عرفة، ويتقرب إلى الله فيه بصالح العمل، ويتضرع ويبتهل بين يدي ربه بالدعاء والانكسار، فهنيئاً لمن رُزق فيه التوفيق للعمل الصالح وهنيئاً لمن نال فيه الرضا والقبول من ربه. ٭ في يوم عرفة، يتذكر المسلمون وصايا نبيهم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تلك الوصايا العظيمة الجامعة لخير الدنيا والآخرة، وجهها عليه الصلاة والسلام لأمته في يوم عرفة، ومما قاله في خطبته الجامعة: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله..» كلمات جامعة أسمعها النبي صلى الله عليه وسلم أمته في أعظم يوم وأعظم شهر وأعظم مكان لتبقى حرمة المسلم مصانة لا يجوز انتهاكها ولا إهدارها ولا تضيع شيء منها. نسأل الله التوفيق والقبول.. ٭ عميد كلية أصول الدين وإمام وخطيب جامع قصر الأمير سلمان بن عبدالعزيز