انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «الأونروا» : النهب يفاقم مأساة غزة مع اقتراب شبح المجاعة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    م. الرميح رئيساً لبلدية الخرج    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التباس مفهوم الثقافة
نشر في الرياض يوم 01 - 01 - 2006

إن مفهوم الثقافة مفهوم موغل في التجريد فمضمونه لا يمكن رؤيته ولا الإحساس به ومما يضاعف غموضه والتباسه أنه مفهوم كثيف المحتوى ومتنوع العناصر إن الناس في أي مجتمع لا يعرفون في الغالب هذا الكائن المعقَّد الذي يصوغهم ويحيط بهم ويوجِّه تفكيرهم ويحدِّد اهتماماتهم انهم ذائبون فيه إنه يسيِّرهم ولا يسيرونه ويوجِّههم ولا يوجِّهونه إنه منغرس فيهم قبل بزوغ وعيهم بل به يتكون هذا الوعي ولكنه في الكثير من الأحيان يكون وعياً زائفاً وسواء عملت الثقافة على تكوين وعي صحيح أم وعي زائف فإن كل الناس ليسوا بتفكيرهم وقيمهم واهتماماتهم وتجليات سلوكهم سوى المظهر الخارجي لهذا الكائن العجيب الذي يعبَّر عنه بلفظ واحد هو الثقافة..
إن الإنسان كائن ثقافي بامتياز فهو صانع الثقافة وفي الوقت ذاته هو مصنوع بها إنها ليست نتاجاً فردياً يختاره الفرد ويوجهه حيث شاء وإنما الثقافات تتكون ضمن ظروف طبيعية وتاريخية واجتماعية وسياسية هي أكبر من كل الأفراد إنها الوسط الذهني الذي يتشكل به تفكيرهم ويتحدد انتماؤهم وتتكون ميولهم إن كل ثقافة تحدد لأهلها من يوالون ومن يعادون إنها تبرمج عواطفهم على أن يحبوا هذا ويكرهوا ذاك وتوجه رغباتهم وتنساب بها دوافعهم بل إن الثقافة هي العقل ذاته ومن هنا تنوعت العقول بتنوع الثقافات فيقال العقل العربي والعقل الانجلوسكسوني والعقل الأمريكي والعقل اللاتيني والعقل السلافي إلى غير ذلك من التنوعات الثقافية التي تجعل الأمم تُفكر بطرق شديدة التنوع...
إن الثقافات سابقة للحضارة سبقاً موغلاً فالجماعات الإنسانية في العصور القديمة عاشت قروناً ممعنة في الطول والامتداد قبل أن تتكون الحضارة لكن لم يوجد أية جماعة دون ثقافة لقد عاش الإنسان أحقاباً طويلة جوالاً في البراري قبل أن يتحضَّر ويستقر في الحواضر أما الثقافة فقد صاحبته منذ وجوده ففي البدء كانت الثقافة وفي البدء كانت اللغة: {وعلَّم آدم الأسماء} فهي الامتياز المطلق للإنسان أما الحضارة فهي نتاج عقلاني جاء متأخراً واستغرق تطويرها آلافاً من السنين ان الاجتماع الإنساني أنتج الثقافة أما الحضارة فهي عناصر مختارة انتجتها الاشراقات الثقافية الاستثنائية النادرة ان الثقافات المتطورة هي التي أنجزت الحضارة فصارت هذه الانجازات متاحة للجميع من كل الثقافات مهما كان مستواها هبوطاً أو صعوداً فالمنجزات الحضارية مشاعة ومشتركة بين كل الأمم أما الثقافات فهي شديدة التمايز والخصوصية ومن هنا جاء التفاوت الشاسع بين الأمم..
إن الكثير من القراء والمتعلمين والباحثين يلتبس عليهم مفهوم الثقافة بمفهوم الحضارة مع أنهما متمايزان أشد التمايز لذلك ينبغي التأكيد الشديد على التمايز الحاسم بين المفهومين فرغم أن الإنسانية تعيش الآن في عصر تعميم التعليم والمعلوماتية وحضارة المعرفة والانترنت والفضائيات والعولمة فإنه يوجد ثقافات مازالت موغلة في التخلف وعاجزة عن الانجاز وغير قادرة على تجاوز المألوف ولكنها تستخدم منجزات الآخرين وربما تتوهم أنها الأرقى فالثقافات بالغة التنوع وشديدة التمايز نزولاً أو ارتقاء وحتى الثقافات المتخلفة التي استفاد أهلها من انجازات الثقافات المتقدمة فإنها رغم هذه الاستفادة الخادعة مازالت محكومة بأنماط عقيمة من الأفكار والقيم والتقاليد فاستخدام منجزات الثقافات المزدهرة لا يدل على الازدهار الثقافي فركوب الطائرة لا يمكن مقارنته بصناعتها بل ان الفرق هنا فرق نوعي...
إن العقل لا يزدهر إلا بمقدار ازدهار الثقافة التي ينشأ عليها فهي رحم العقل وهي قالب العواطف وموجه السلوك فالجنين يحتضنه رحم أمه في فترة التخلق فيمده بما يغذيه وينفعه ويحتاج إليه أما حين يغادر الفرد هذا القرار المكين فإن رحم الثقافة يستقبله ويصوغه ليس دائماً بما هو أصح وأنفع وإنما هي قوالب ثقافية تتوارثها الأجيال آلاف السنين وهي قد تكون قوالب عمياء وقد تكون بصيرة إنها قوالب متنوعة وجاهزة يتشكل بها كل من تقذف بهم الأرحام إلى الدنيا إن الثقافة تصوغ الفرد دون اختياره فيتشكل عقله ووجدانه بما يلائمها لا بما يلائم الفرد انها تنقل الفرد من حالة الطبيعة الطيِّعة القابلة لأية صياغة إلى نمط محدَّد من الأنماط الثقافية وبذلك يخرج من حالة القابلية الهلامية وينتقل إلى شكل محدَّد من أنماط العقل فيكتسب طبيعته الثانية الأكثر استقراراً وثباتاً ويبقى مأسوراً بها في الغالب طول حياته فالثقافة مستقلة عن الأفراد إنها الرحم الذي تتخلَّق به العقول وتصاغ العواطف وتتحدَّد الاتجاهات وتتكوَّن الاهتمامات إنها ذلك الاطار المرجعي الضاغط والجامع الذي يصاحب الأفراد منذ ولادتهم ويستمر معهم أو يستمرون معه إلى يوم وفاتهم لا يخرجهم منه تعليم ولا عمل ولا يخفف سلطانه سفر ولا انتقال ولا تجدي للفكاك من أسره شهادات عليا أما المفتاح الوحيد الذي يعيد للفرد ذاته فهو امتلاك العقل الناقد الذي يتيح للفرد أن يراجع محتويات ذهنه ويعيد فحص عاداته وطريقة تفكيره فيبني وعيه بنفسه ويتحمَّل مسؤولية تكوين رؤاه ومواقفه وسلوكه..
إن اكتشاف طبيعة الثقافة ومعرفة استقلالها عن المتشكلين بها تعد من الاكتشافات العلمية الأساسية الحديثة وبذلك فإن مفهوم الثقافة من المفاهيم المعرفية المحورية ذات الكثافة المضمونية الشديدة وهذه الكثافة الطارئة على اللفظ تقتضي استيعاب معناه الحديث وادراك مكوناته المعقدة قبل استخدامه أما إذا جرى استعماله دون هذا الادراك كما هو حاصل كثيراً فإن هذا الاستعمال يُحدث لدى المتلقي التباساً معرفياً شديداً ويُسهم في حجب المعنى الحديث المركب ويصرف الاهتمام عن الاستقصاء حول ما يعنيه المفهوم ويوهم الناس بأبدية المعنى التلقائي المتبادر..
لقد تغيَّرت المعارف الإنسانية تغيرات واسعة بل في بعض جوانبها جرت عليها تبدَّلات جذرية لكن اللغات التي هي وسيلة التواصل الرئيسة ليس بالامكان تغييرها لتتلاءم مع التغيرات والتبدلات المعرفية وإنما يجري استخدام الألفاظ الموروثة ويعالج قصورها بالاشتقاق وبالمجازات وبالإزاحة الدلالية وبنحت المصطلحات وبتشييد المفاهيم إن الفلاسفة والمفكرين والعلماء والباحثين حين يحققون فتوحاتهم المعرفية لا يجدون أمامهم سوى اللغات الموروثة وهي بطبيعتها أداة قاصرة وهذه المشكلة تعاني منها كل اللغات لكنها تعوِّض هذا القصور بما فيها من مرونة وقابلية للتطويع فتتحمل بعد جهد جهيد كل ما يستجد من المعاني وبهذه الآلية يجري تخطي هذه المشكلة نسبياً فيعمد بناة المعرفة إلى التعبير عن المركَّبات المعرفية الجديدة بنحت مصطلحات وأحياناً يكون المعنى المركَّب الطارئ متعدد العناصر وكثيف التكوين ويحوي مضموناً كلياً يستحيل ان يؤديه اللفظ وحده فيتحول إلى مفهوم واسع ومعقَّد لا يمكن استيعابه إلا بتتبع مراحل تكوينه ومسيرة تطوره ويعدُّ مفهوم الثقافة من أعقد المفاهيم وأوسعها دلالة وأشملها مضموناً مما جعله مصحوباً دائماً بالكثير من الغموض والالتباس...
لذلك باتت معاجم المصطلحات والمفاهيم من المصادر الأساسية للمعرفة الحديثة لكننا في الثقافة العربية مازلنا غرباء عن الكثير من المفاهيم التي تبلورت في الثقافة الغربية وكنموذج على هذه الغربة استعمالنا القاصر أو الخاطئ لمفهوم الثقافة مما أحدث الكثير من اللبس وأضاع المضمون الجديد الذي يمثل اطاراً معرفياً كبير الأهمية انه حين يراد التعبير بمفردة واحدة عن معنى كلي كثير العناصر ومتعدد الوجوه ومتنوع التجليات فإن الاعتماد على قواميس اللغة وحدها أو الاكتفاء بالمتبادر من اللفظ دون استقصاء عن محتواه الجديد الزاخر بعد أن بات من المفاهيم الكلية ذات المضمون الكثيف والعناصر المتعددة إذا حصل ذلك وهو يحصل كثيراً فإنه يحدث ارباكاً شديداً للمعنى وتقزيماً للدلالة وتشويهاً للادراك وتزييفاً للوعي وإغفالاً للتغيرات النوعية التي طرأت على المعرفة الإنسانية واستبعاداً لنتائج العلوم الحديثة التي غيَّرت الرؤى وكشفت المجهولات وبدَّلت المضامين وأضافت إلى المفردات اللغوية دلالات جديدة كثيفة لم تكن الألفاظ دالة عليها لا في أصل وضعها ولا في تشعباتها المجازية ولا في استعمالاتها تاريخياً..
لقد اكتظت المعرفة الإنسانية الحديثة بمفاهيم ذات تعقيد شديد لا تستطيع المفردات اللغوية أن تعبِّر عنها ولكن لا مفرَّ من استخدامها غير أنه لابد أن ندرك أنها بهذا الاستخدام الجديد قد اتسع معناها اتساعاً هائلاً وتضخمت دلالاتها وانزاحت عن معناها القديم وتشبَّعت بمضمون جديد وكثيف ومعقد ونهضت بحمولة ثقيلة باهظة ومن أبرز المفاهيم الجديدة المثقلة بمحتواها الجديد: مفهوم (الثقافة) إننا حين نعود إلى مادة (ثقف) في معاجم اللغة نجد أن (الثقافة) بكسر الثاء تعني الملاعبة بالسيف أما (الثّقاف) فهي أداة لتعديل اعوجاج الرماح أما (ثقَّف) الشيء فتعني سواه وأقام اعوجاجه و(ثَقِفَ) الخل صار لاذعاً شديد الحموضة كما تأتي بمعنى ظفر به وأدركه كما تجيء بمعنى وجده وصادفه وفي القرآن: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وفي الآية الأخرى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا} وفي آي ثالثة: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء} وتأتي بمعنى الخصام والقتال والمنابذة كما تأتي بمعنى الأسر والحبس والقيد ومنه قوله تعالى: {فإما تثقفنَّهم في الحرب فشرِّد بهم من خلفهم} كما تأتي بمعنى الحذق والمهارة والفهم والذكاء والتهذيب ومن الواضح أن كل هذه المعاني بمضمونها المعجمي الموروث لا تستطيع أن تؤدي المعنى الحديث الكثيف المعقَّد الذي يدل عليه مفهوم (الثقافة) في هذا العصر...
وهذه الكثافة الطارئة لمعاني المفردات التي تحوَّلت إلى مفاهيم مزدحمة ومثقلة بمضمونها الجديد هي معضلة معرفية عامة واجهت كل اللغات إن تيري ايجلتون يستهل كتابه عن (فكرة الثقافة) بالتنبيه إلى أن كلمة (ثقافة) هي احدى كلمات ثلاث يكتنفها أشد التعقيد في اللغة الانجليزية وما من شك بأنها في اللغة العربية أشد بعداً عن معانيها المعجمية ويعود هذا البُعد وهذا التعقيد إلى أنه يراد التعبير بلفظ واحد عن تركيبة طارئة معقدة من المعاني الواسعة الجديدة كما أن هذه التركيبة تتغيَّر عناصرها ويختلف محتواها باختلاف الثقافات ومن هنا يكون تحرير هذا المفهوم من أشد الضرورات المعرفية لأنه من غير هذا التحرير لا نستبين الفرق بين العلم والثقافة ولا ندرك الاختلافات الشاسعة بين الثقافات ولا نميز بين المعلومات المتماثلة التي يتلقاها الدارسون في التعليم في المجتمعات المختلفة وبين الثقافة التي يختص كل مجتمع بنوع منها مغاير لثقافات الآخرين...
إن ذهن الفرد ليس ملك صاحبه وإنما هو ملك الثقافة التي صاغته إنه محاصر من حيث لا يدري فينشأ مغتبطاً بهذا الحصار الذي لا يحس به لذلك فإن أول وأهم واجبات الفرد أن يضطلع بمسؤوليته عن واقعه وعن مصيره وأن يستعيد ذاته ويشيِّد وعيه بنفسه ولكن الفرد لن يضطلع بهذا العبء الاستدراكي الثقيل إلا إذا زالت غبطته بما هو عليه وأدرك أنه مختطف العقل والوجدان وأن قناعاته وعواطفه ليست من ابداع وعيه وإنما هي سابقة لبزوغ هذا الوعي انه بهذا الاكتشاف المتأخر لعمليات التشكيل التلقائية والمخططة التي صاغت عقله ووجدانه يكون قد قطع نصف المسافة إلى استعادة ذاته ويبقى عليه أن يواصل بناء قناعاته بنفسه وأن يتحرى الحقيقة ويلتزم بها حيثما كانت وأن يتقبلها من أي مصدر أتت...
إن الثقافة سابقة لوجود الفرد وهي نتاج تاريخي معقد إن الفرد يولد في الصين أو اليابان أو الهند أو البرازيل أو كندا فيصاغ بهذه الثقافة أو تلك دون اختياره وهو في الغالب يعتقد انه محظوظ بثقافته متوهماً امتياز العرق الذي ينتمي إليه واللغة التي يتكلم بها والتصورات التي تشبّع بها تلقائياً إن الثقافة سابقة للتعليم فهي تحكمه ولا يحكمها وهي ترتهنه ولا يرتهنها وبهذا يظهر أن مفهوم الثقافة يعد من أعقد المفاهيم الحديثة التي لا يكفي لفهمها استقراء المعاجم اللغوية وإنما لابد من التعرف عليها من مراجع الفرع العلمي الذي تنتسب إليه أو ينتسب هو إليها وبهذا فإن مفهوم الثقافة لا يمكن فهمه من مراجعة قواميس اللغة وإنما يستوجب الأمر الاطلاع على مراجع علم (الإناسة) فهذا العلم من أهم علوم العصر ومن أكثرها نفعاً وهو مقسم إلى فرعين رئيسيين هما: الانثروبولوجيا الطبيعية والانثروبولوجيا الثقافية الأول يدرس الإنسان عضوياً ويتتبع مراحل نشأته والصفات المميزة له وتفرعاته السلالية وخصائص كل سلالة ونقاط الالتقاء والافتراق بين الإنسان جسدياً والعضويات الأخرى أما الانثربولوجيا الثقافية فتدرس الثقافات المتنوعة وتحاول فهم بدايات النشأة ومراحل التطور وأسباب هذه التنوعات الثقافية وهي تستعين بكافة المنجزات والمخزونات والمدونات والآثار والممارسات الثقافية فتدرس التاريخ الثقافي كما تدرس اللغات وتحاول أن تستخلص منها الاتجاهات الذهنية السائدة في كل منها وأنواع الاهتمامات التي حركت أهلها في اتجاهات مختلفة كما تدرس الآثار وكل ما يدل على كيفيات النشأة ومراحل التطور كما تدرس المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية والعادات والتقاليد وتتعرف على منظومات القيم المتباينة وعلى الاهتمامات المختلفة وعلى التراتبات الاجتماعية المتمايزة وعلى التغيرات التي مرت بها كما تهتم بالتنوعات الجغرافية التي تكوَّنت فيها الثقافات المتنوعة لتحدد أثر البيئة الطبيعية في كل منها ونسبة هذا الأثر قياساً بالمؤثرات الأخرى..
إن مفهوم الثقافة من المفاهيم المحورية الحديثة وهو باتساعه وتعقيدات محتواه قد استغرق علماً بأكمله بل إنه من أبرز الأسس التي تنهض عليه كل العلوم الاجتماعية أما علم الأناسة فهو يستفيد من كل العلوم ويحاول أن يتعرف على طبيعة هذا الكائن المراوغ العجيب ومن أجل ذلك صار من أوسع العلوم مجالاً وأشدها تعقيداً وأكثرها غموضاً وأبعدها عن البداهات السائدة لذلك فإن مفهوم الثقافة مفهوم محوري شديد الكثافة لا بد من استيعابه وفهمه أما دون هذا الاستيعاب والفهم فسوف يفوتنا ادراك أسباب التباينات الصارخة في أوضاع المجتمعات فعقول البشر تتباين بمقدار تباين الثقافات التي يصاغون بها ولكن هذه الحقيقة الهامة مازالت محتجبة بشكل كثيف ليس فقط عن عامة المتعلمين وإنما عن الكثير من أهل الرأي المعتبر أما أسباب غموض ومراوغة والتباس مفهوم الثقافة فسوف تكون موضوع المقالة التالية إن شاء الله... إن مفهوم الثقافة مفهوم موغل في التجريد فمضمونه لا يمكن رؤيته ولا الإحساس به ومما يضاعف غموضه والتباسه أنه مفهوم كثيف المحتوى ومتنوع العناصر إن الناس في أي مجتمع لا يعرفون في الغالب هذا الكائن المعقَّد الذي يصوغهم ويحيط بهم ويوجِّه تفكيرهم ويحدِّد اهتماماتهم انهم ذائبون فيه إنه يسيِّرهم ولا يسيرونه ويوجِّههم ولا يوجِّهونه إنه منغرس فيهم قبل بزوغ وعيهم بل به يتكون هذا الوعي ولكنه في الكثير من الأحيان يكون وعياً زائفاً وسواء عملت الثقافة على تكوين وعي صحيح أم وعي زائف فإن كل الناس ليسوا بتفكيرهم وقيمهم واهتماماتهم وتجليات سلوكهم سوى المظهر الخارجي لهذا الكائن العجيب الذي يعبَّر عنه بلفظ واحد هو الثقافة..
إن الإنسان كائن ثقافي بامتياز فهو صانع الثقافة وفي الوقت ذاته هو مصنوع بها إنها ليست نتاجاً فردياً يختاره الفرد ويوجهه حيث شاء وإنما الثقافات تتكون ضمن ظروف طبيعية وتاريخية واجتماعية وسياسية هي أكبر من كل الأفراد إنها الوسط الذهني الذي يتشكل به تفكيرهم ويتحدد انتماؤهم وتتكون ميولهم إن كل ثقافة تحدد لأهلها من يوالون ومن يعادون إنها تبرمج عواطفهم على أن يحبوا هذا ويكرهوا ذاك وتوجه رغباتهم وتنساب بها دوافعهم بل إن الثقافة هي العقل ذاته ومن هنا تنوعت العقول بتنوع الثقافات فيقال العقل العربي والعقل الانجلوسكسوني والعقل الأمريكي والعقل اللاتيني والعقل السلافي إلى غير ذلك من التنوعات الثقافية التي تجعل الأمم تُفكر بطرق شديدة التنوع...
إن الثقافات سابقة للحضارة سبقاً موغلاً فالجماعات الإنسانية في العصور القديمة عاشت قروناً ممعنة في الطول والامتداد قبل أن تتكون الحضارة لكن لم يوجد أية جماعة دون ثقافة لقد عاش الإنسان أحقاباً طويلة جوالاً في البراري قبل أن يتحضَّر ويستقر في الحواضر أما الثقافة فقد صاحبته منذ وجوده ففي البدء كانت الثقافة وفي البدء كانت اللغة: {وعلَّم آدم الأسماء} فهي الامتياز المطلق للإنسان أما الحضارة فهي نتاج عقلاني جاء متأخراً واستغرق تطويرها آلافاً من السنين ان الاجتماع الإنساني أنتج الثقافة أما الحضارة فهي عناصر مختارة انتجتها الاشراقات الثقافية الاستثنائية النادرة ان الثقافات المتطورة هي التي أنجزت الحضارة فصارت هذه الانجازات متاحة للجميع من كل الثقافات مهما كان مستواها هبوطاً أو صعوداً فالمنجزات الحضارية مشاعة ومشتركة بين كل الأمم أما الثقافات فهي شديدة التمايز والخصوصية ومن هنا جاء التفاوت الشاسع بين الأمم..
إن الكثير من القراء والمتعلمين والباحثين يلتبس عليهم مفهوم الثقافة بمفهوم الحضارة مع أنهما متمايزان أشد التمايز لذلك ينبغي التأكيد الشديد على التمايز الحاسم بين المفهومين فرغم أن الإنسانية تعيش الآن في عصر تعميم التعليم والمعلوماتية وحضارة المعرفة والانترنت والفضائيات والعولمة فإنه يوجد ثقافات مازالت موغلة في التخلف وعاجزة عن الانجاز وغير قادرة على تجاوز المألوف ولكنها تستخدم منجزات الآخرين وربما تتوهم أنها الأرقى فالثقافات بالغة التنوع وشديدة التمايز نزولاً أو ارتقاء وحتى الثقافات المتخلفة التي استفاد أهلها من انجازات الثقافات المتقدمة فإنها رغم هذه الاستفادة الخادعة مازالت محكومة بأنماط عقيمة من الأفكار والقيم والتقاليد فاستخدام منجزات الثقافات المزدهرة لا يدل على الازدهار الثقافي فركوب الطائرة لا يمكن مقارنته بصناعتها بل ان الفرق هنا فرق نوعي...
إن العقل لا يزدهر إلا بمقدار ازدهار الثقافة التي ينشأ عليها فهي رحم العقل وهي قالب العواطف وموجه السلوك فالجنين يحتضنه رحم أمه في فترة التخلق فيمده بما يغذيه وينفعه ويحتاج إليه أما حين يغادر الفرد هذا القرار المكين فإن رحم الثقافة يستقبله ويصوغه ليس دائماً بما هو أصح وأنفع وإنما هي قوالب ثقافية تتوارثها الأجيال آلاف السنين وهي قد تكون قوالب عمياء وقد تكون بصيرة إنها قوالب متنوعة وجاهزة يتشكل بها كل من تقذف بهم الأرحام إلى الدنيا إن الثقافة تصوغ الفرد دون اختياره فيتشكل عقله ووجدانه بما يلائمها لا بما يلائم الفرد انها تنقل الفرد من حالة الطبيعة الطيِّعة القابلة لأية صياغة إلى نمط محدَّد من الأنماط الثقافية وبذلك يخرج من حالة القابلية الهلامية وينتقل إلى شكل محدَّد من أنماط العقل فيكتسب طبيعته الثانية الأكثر استقراراً وثباتاً ويبقى مأسوراً بها في الغالب طول حياته فالثقافة مستقلة عن الأفراد إنها الرحم الذي تتخلَّق به العقول وتصاغ العواطف وتتحدَّد الاتجاهات وتتكوَّن الاهتمامات إنها ذلك الاطار المرجعي الضاغط والجامع الذي يصاحب الأفراد منذ ولادتهم ويستمر معهم أو يستمرون معه إلى يوم وفاتهم لا يخرجهم منه تعليم ولا عمل ولا يخفف سلطانه سفر ولا انتقال ولا تجدي للفكاك من أسره شهادات عليا أما المفتاح الوحيد الذي يعيد للفرد ذاته فهو امتلاك العقل الناقد الذي يتيح للفرد أن يراجع محتويات ذهنه ويعيد فحص عاداته وطريقة تفكيره فيبني وعيه بنفسه ويتحمَّل مسؤولية تكوين رؤاه ومواقفه وسلوكه..
إن اكتشاف طبيعة الثقافة ومعرفة استقلالها عن المتشكلين بها تعد من الاكتشافات العلمية الأساسية الحديثة وبذلك فإن مفهوم الثقافة من المفاهيم المعرفية المحورية ذات الكثافة المضمونية الشديدة وهذه الكثافة الطارئة على اللفظ تقتضي استيعاب معناه الحديث وادراك مكوناته المعقدة قبل استخدامه أما إذا جرى استعماله دون هذا الادراك كما هو حاصل كثيراً فإن هذا الاستعمال يُحدث لدى المتلقي التباساً معرفياً شديداً ويُسهم في حجب المعنى الحديث المركب ويصرف الاهتمام عن الاستقصاء حول ما يعنيه المفهوم ويوهم الناس بأبدية المعنى التلقائي المتبادر..
لقد تغيَّرت المعارف الإنسانية تغيرات واسعة بل في بعض جوانبها جرت عليها تبدَّلات جذرية لكن اللغات التي هي وسيلة التواصل الرئيسة ليس بالامكان تغييرها لتتلاءم مع التغيرات والتبدلات المعرفية وإنما يجري استخدام الألفاظ الموروثة ويعالج قصورها بالاشتقاق وبالمجازات وبالإزاحة الدلالية وبنحت المصطلحات وبتشييد المفاهيم إن الفلاسفة والمفكرين والعلماء والباحثين حين يحققون فتوحاتهم المعرفية لا يجدون أمامهم سوى اللغات الموروثة وهي بطبيعتها أداة قاصرة وهذه المشكلة تعاني منها كل اللغات لكنها تعوِّض هذا القصور بما فيها من مرونة وقابلية للتطويع فتتحمل بعد جهد جهيد كل ما يستجد من المعاني وبهذه الآلية يجري تخطي هذه المشكلة نسبياً فيعمد بناة المعرفة إلى التعبير عن المركَّبات المعرفية الجديدة بنحت مصطلحات وأحياناً يكون المعنى المركَّب الطارئ متعدد العناصر وكثيف التكوين ويحوي مضموناً كلياً يستحيل ان يؤديه اللفظ وحده فيتحول إلى مفهوم واسع ومعقَّد لا يمكن استيعابه إلا بتتبع مراحل تكوينه ومسيرة تطوره ويعدُّ مفهوم الثقافة من أعقد المفاهيم وأوسعها دلالة وأشملها مضموناً مما جعله مصحوباً دائماً بالكثير من الغموض والالتباس...
لذلك باتت معاجم المصطلحات والمفاهيم من المصادر الأساسية للمعرفة الحديثة لكننا في الثقافة العربية مازلنا غرباء عن الكثير من المفاهيم التي تبلورت في الثقافة الغربية وكنموذج على هذه الغربة استعمالنا القاصر أو الخاطئ لمفهوم الثقافة مما أحدث الكثير من اللبس وأضاع المضمون الجديد الذي يمثل اطاراً معرفياً كبير الأهمية انه حين يراد التعبير بمفردة واحدة عن معنى كلي كثير العناصر ومتعدد الوجوه ومتنوع التجليات فإن الاعتماد على قواميس اللغة وحدها أو الاكتفاء بالمتبادر من اللفظ دون استقصاء عن محتواه الجديد الزاخر بعد أن بات من المفاهيم الكلية ذات المضمون الكثيف والعناصر المتعددة إذا حصل ذلك وهو يحصل كثيراً فإنه يحدث ارباكاً شديداً للمعنى وتقزيماً للدلالة وتشويهاً للادراك وتزييفاً للوعي وإغفالاً للتغيرات النوعية التي طرأت على المعرفة الإنسانية واستبعاداً لنتائج العلوم الحديثة التي غيَّرت الرؤى وكشفت المجهولات وبدَّلت المضامين وأضافت إلى المفردات اللغوية دلالات جديدة كثيفة لم تكن الألفاظ دالة عليها لا في أصل وضعها ولا في تشعباتها المجازية ولا في استعمالاتها تاريخياً..
لقد اكتظت المعرفة الإنسانية الحديثة بمفاهيم ذات تعقيد شديد لا تستطيع المفردات اللغوية أن تعبِّر عنها ولكن لا مفرَّ من استخدامها غير أنه لابد أن ندرك أنها بهذا الاستخدام الجديد قد اتسع معناها اتساعاً هائلاً وتضخمت دلالاتها وانزاحت عن معناها القديم وتشبَّعت بمضمون جديد وكثيف ومعقد ونهضت بحمولة ثقيلة باهظة ومن أبرز المفاهيم الجديدة المثقلة بمحتواها الجديد: مفهوم (الثقافة) إننا حين نعود إلى مادة (ثقف) في معاجم اللغة نجد أن (الثقافة) بكسر الثاء تعني الملاعبة بالسيف أما (الثّقاف) فهي أداة لتعديل اعوجاج الرماح أما (ثقَّف) الشيء فتعني سواه وأقام اعوجاجه و(ثَقِفَ) الخل صار لاذعاً شديد الحموضة كما تأتي بمعنى ظفر به وأدركه كما تجيء بمعنى وجده وصادفه وفي القرآن: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وفي الآية الأخرى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا} وفي آي ثالثة: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء} وتأتي بمعنى الخصام والقتال والمنابذة كما تأتي بمعنى الأسر والحبس والقيد ومنه قوله تعالى: {فإما تثقفنَّهم في الحرب فشرِّد بهم من خلفهم} كما تأتي بمعنى الحذق والمهارة والفهم والذكاء والتهذيب ومن الواضح أن كل هذه المعاني بمضمونها المعجمي الموروث لا تستطيع أن تؤدي المعنى الحديث الكثيف المعقَّد الذي يدل عليه مفهوم (الثقافة) في هذا العصر...
وهذه الكثافة الطارئة لمعاني المفردات التي تحوَّلت إلى مفاهيم مزدحمة ومثقلة بمضمونها الجديد هي معضلة معرفية عامة واجهت كل اللغات إن تيري ايجلتون يستهل كتابه عن (فكرة الثقافة) بالتنبيه إلى أن كلمة (ثقافة) هي احدى كلمات ثلاث يكتنفها أشد التعقيد في اللغة الانجليزية وما من شك بأنها في اللغة العربية أشد بعداً عن معانيها المعجمية ويعود هذا البُعد وهذا التعقيد إلى أنه يراد التعبير بلفظ واحد عن تركيبة طارئة معقدة من المعاني الواسعة الجديدة كما أن هذه التركيبة تتغيَّر عناصرها ويختلف محتواها باختلاف الثقافات ومن هنا يكون تحرير هذا المفهوم من أشد الضرورات المعرفية لأنه من غير هذا التحرير لا نستبين الفرق بين العلم والثقافة ولا ندرك الاختلافات الشاسعة بين الثقافات ولا نميز بين المعلومات المتماثلة التي يتلقاها الدارسون في التعليم في المجتمعات المختلفة وبين الثقافة التي يختص كل مجتمع بنوع منها مغاير لثقافات الآخرين...
إن ذهن الفرد ليس ملك صاحبه وإنما هو ملك الثقافة التي صاغته إنه محاصر من حيث لا يدري فينشأ مغتبطاً بهذا الحصار الذي لا يحس به لذلك فإن أول وأهم واجبات الفرد أن يضطلع بمسؤوليته عن واقعه وعن مصيره وأن يستعيد ذاته ويشيِّد وعيه بنفسه ولكن الفرد لن يضطلع بهذا العبء الاستدراكي الثقيل إلا إذا زالت غبطته بما هو عليه وأدرك أنه مختطف العقل والوجدان وأن قناعاته وعواطفه ليست من ابداع وعيه وإنما هي سابقة لبزوغ هذا الوعي انه بهذا الاكتشاف المتأخر لعمليات التشكيل التلقائية والمخططة التي صاغت عقله ووجدانه يكون قد قطع نصف المسافة إلى استعادة ذاته ويبقى عليه أن يواصل بناء قناعاته بنفسه وأن يتحرى الحقيقة ويلتزم بها حيثما كانت وأن يتقبلها من أي مصدر أتت...
إن الثقافة سابقة لوجود الفرد وهي نتاج تاريخي معقد إن الفرد يولد في الصين أو اليابان أو الهند أو البرازيل أو كندا فيصاغ بهذه الثقافة أو تلك دون اختياره وهو في الغالب يعتقد انه محظوظ بثقافته متوهماً امتياز العرق الذي ينتمي إليه واللغة التي يتكلم بها والتصورات التي تشبّع بها تلقائياً إن الثقافة سابقة للتعليم فهي تحكمه ولا يحكمها وهي ترتهنه ولا يرتهنها وبهذا يظهر أن مفهوم الثقافة يعد من أعقد المفاهيم الحديثة التي لا يكفي لفهمها استقراء المعاجم اللغوية وإنما لابد من التعرف عليها من مراجع الفرع العلمي الذي تنتسب إليه أو ينتسب هو إليها وبهذا فإن مفهوم الثقافة لا يمكن فهمه من مراجعة قواميس اللغة وإنما يستوجب الأمر الاطلاع على مراجع علم (الإناسة) فهذا العلم من أهم علوم العصر ومن أكثرها نفعاً وهو مقسم إلى فرعين رئيسيين هما: الانثروبولوجيا الطبيعية والانثروبولوجيا الثقافية الأول يدرس الإنسان عضوياً ويتتبع مراحل نشأته والصفات المميزة له وتفرعاته السلالية وخصائص كل سلالة ونقاط الالتقاء والافتراق بين الإنسان جسدياً والعضويات الأخرى أما الانثربولوجيا الثقافية فتدرس الثقافات المتنوعة وتحاول فهم بدايات النشأة ومراحل التطور وأسباب هذه التنوعات الثقافية وهي تستعين بكافة المنجزات والمخزونات والمدونات والآثار والممارسات الثقافية فتدرس التاريخ الثقافي كما تدرس اللغات وتحاول أن تستخلص منها الاتجاهات الذهنية السائدة في كل منها وأنواع الاهتمامات التي حركت أهلها في اتجاهات مختلفة كما تدرس الآثار وكل ما يدل على كيفيات النشأة ومراحل التطور كما تدرس المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية والعادات والتقاليد وتتعرف على منظومات القيم المتباينة وعلى الاهتمامات المختلفة وعلى التراتبات الاجتماعية المتمايزة وعلى التغيرات التي مرت بها كما تهتم بالتنوعات الجغرافية التي تكوَّنت فيها الثقافات المتنوعة لتحدد أثر البيئة الطبيعية في كل منها ونسبة هذا الأثر قياساً بالمؤثرات الأخرى..
إن مفهوم الثقافة من المفاهيم المحورية الحديثة وهو باتساعه وتعقيدات محتواه قد استغرق علماً بأكمله بل إنه من أبرز الأسس التي تنهض عليه كل العلوم الاجتماعية أما علم الأناسة فهو يستفيد من كل العلوم ويحاول أن يتعرف على طبيعة هذا الكائن المراوغ العجيب ومن أجل ذلك صار من أوسع العلوم مجالاً وأشدها تعقيداً وأكثرها غموضاً وأبعدها عن البداهات السائدة لذلك فإن مفهوم الثقافة مفهوم محوري شديد الكثافة لا بد من استيعابه وفهمه أما دون هذا الاستيعاب والفهم فسوف يفوتنا ادراك أسباب التباينات الصارخة في أوضاع المجتمعات فعقول البشر تتباين بمقدار تباين الثقافات التي يصاغون بها ولكن هذه الحقيقة الهامة مازالت محتجبة بشكل كثيف ليس فقط عن عامة المتعلمين وإنما عن الكثير من أهل الرأي المعتبر أما أسباب غموض ومراوغة والتباس مفهوم الثقافة فسوف تكون موضوع المقالة التالية إن شاء الله...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.