بعدما خرجنا من مجلس العزاء، في بيت صاحبه الراحل الدكتور عبدالله الوهيبي، تذاكر نفر من أصدقائه وزملائه أفضال الفقيد وسجاياه، وابتدأ الدكتور فالح الفالح الطبيب البارع القول بأنه يرحمه الله كان أحد رموز التنوير في مجتمعنا.. وافقه الدكتور منصور الحازمي مضيفاً أن الوهيبي كان وجيهاً فعالاً.. بينما ذهب الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري مذهباً آخر.. وأنا أسائله عن القيمة العلمية لآثار أبي ناصر.. أشار إلى رسالته الأكاديمية في تحديد المواقع الجغرافية في شمال غرب الحجاز.. والتي ذكرها مؤرخ الأعلام السعودي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في مقاله الرثائي بجريدة الشرق الأوسط.. وأثنى عليها - أمس - أحد أبناء ذلك الاقليم البارين الدكتور عايض الردادي، في مقاله بجريدة الجزيرة.. عند مدخل بيت الوهيبي الذي شهد لعقود زواراً لمجلسه المضاء! ما بين العشائين.. كان المعزون يتوافدون عليه من كل صوب.. ومن مختلف الشرائح والطبقات.. الوزراء والأعيان.. المثقفين والبسطاء.. فما هو السر في إجماع الناس عليك أيها الوهيبي الموهوب بلا أثر بارز في دنيا الثقافة والبحث؟! ساءلت نفسي هذا السؤال.. وطفقت أسترجع ما قرأته عنه في إطار مواقف من الذكريات.. أول ما قدمت الرياض مراسلاً لجريدة اليوم ثم طالباً في جامعتها الأم.. كان اسم الوهيبي يأخذ بمجامع القلوب.. صدق لهجة وطيب معشر ومساعدة محتاج.. وفوق ذلك مقدرة أكاديمية في مجال تخصصه الأدبي، الذي تحول إلى الدراسات التاريخية، ومعرفة بالمواقع الجغرافية في شمال غرب الجزيرة العربية.. كان حينئذ أميناً عاماً للجامعة، عضداً لوكيلها الدكتور عبدالعزيز الخويطر.. أول سعودي يحوز شهادة الدكتوراة.. وأستاذاً مساعداً في قسم التاريخ.. أول لقاء لي وإياه امتاز بطريقته المعهودة في السلام.. الشد على اليد إلى حد الإيلام!! هل هو يريد اختبار مقدرتك لتحية ملؤها قوة وسلام، قد لا يجيد التعبير عنها باللسان؟! إنه يصافحك مجيباً لتحيتك أو مبتدئاً بهذه الطريقة.. وكأنه يريد أن يكسر حاجز عدم الألفة بينك وبينه.. وبهذا تشعر بعد السلام وقد أصبحت وكأنك تعرف هذا الرجل الصامت منذ سنوات.. ما رأيته يوماً في أروقة مبنى كلية الآداب القديم.. إلا وهو متأبط كتاباً.. في الغالب يبدو كبيراً ومجلداً.. يمازحني ويخصني بتعليق مشجع على مقال نشرته في الجريدة. نسيت أن أذكر ما قاله الدكتور عزت خطاب عن الوهيبي، ونحن نخرج من مجلسه الحزين.. لقد وصف ما عبّر عنه الأساتذة المصريون في كلية آداب القاهرة بعدما نال شهادة البكالوريوس - قسم اللغة العربية - بالامتياز.. لهذا أدركت سبب سؤال زميله القديم الناقد المصري الشهير رجاء النقاش، في زياراته الأولى للرياض عن الدكتور عبدالله الوهيبي وإلحاحه على الالتقاء به. مرة أخرى لماذا لم يمارس فقيدنا الغالي المستوى الذي تستحقه سمعته العلمية ومقدرته الأكاديمية وهو أحد مؤسسي كلية الآداب بجامعة الرياض في ذلك الزمن؟!.. فما عدا رسالة الدكتوراه.. ومقالات قليلة نشرها في جريدة "الرياض" وتعقيبات علمية في مجلة صديقه الأعز شيخنا حمد الجاسر.. تكاد لا تعثر على أثر له.. بينما هو صاحب مكتبة كبيرة، فيها من نوادر كتب التراث، ما لا تجده لدى المتخصصين فيه.. هل قارن رحمه الله مستوى التأثير في الناس ما بين دوره الأكاديمي، ودوره الاجتماعي، فاختار الأخير لأنه أنفع للناس؟! حدثني الصديق الراحل أستاذنا محمد سعيد المسلم، كيف وجد نفسه ذات يوم في حيرة وغربة، وهو يخرج من إدارة المطبوعات في منتصف السبعينيات الميلادية من القرن الماضي! محاولاً السماح بإفساح كتابه الشهير "ساحل الذهب الأسود" دونما جدوى. يقول رحمه الله وهو يهبط درج الإدارة إنه كان يؤمل في دور حميد سيبذله له صديقه حمد الجاسر.. إلا أن الشيخ كان في بيروت يتهيأ للعودة بأهله وما تبقى من كتبه ومخطوطاته إلى الرياض.. وفجأة يواجه رجلاً لم يقابله في حياته قط.. تصافحا.. وإذ أدهشته طريقة الدكتور عبدالله الوهيبي في السلام، أحس بارتياح مباغت.. تضاعف حين تعرف عليه.. وأثمرت تلك الطريقة "الوهيبية" في السلام، بإفساح الكتاب بعدما أصر أبوناصر على الأستاذ المسلم أن يعود إلى مكان سكناه.. ويذهب هو إلى وزير الإعلام وقتها الدكتور محمد عبده يماني.. ليطلب منه بل ويضغط عليه من أجل إفساح كتاب "ساحل الذهب الأسود".. رحمك الله يا أبا ناصر..