الاعتراف بحالة تقدم في سياق ثقافي وطني سمته القبول بالحوار وعلاماته الرضا بسقف الاختلاف ومؤشراته هذه الأجواء الايجابية التي تجمع المتحاورين/المختلفين، لا يعني بحال أن تغيب القراءة النقدية عن مشروع ربما كان من أهم ملامح مرحلة يمر بها مجتمعنا. يدين الحوار الوطني بالفضل للقيادة، فهو وإن كان مطلباً نخبوياً قديماً، إلا أن مبادرة القيادة في مأسسة حوار، يدل دلالة قاطعة على إمكانية استثمار الفكرة لأبعد من مشروع مؤسسة أو منتدى حوار موسمي تشارك فيه النُخب الثقافية من كل أنحاء المملكة. جميل أن يصافح بود - مهما تعددت الرؤى - الفقيه السلفي الفقيه الجعفري، والمثقف ذو النزعة الليبرالية المثقف الإسلامي، ومثقفو المركز مثقفي الأطراف.. جميل أن يكون ثمة توافق على صيغة بيان يؤطر لموضوع الحوار ويخرج بحالة انسجام بين المتحاورين مهما تعددت الرؤى وتباينت مواضع الاختلاف.. جميل أن يكون هذا الموسم عنواناً لوحدة وطنية رغم تعدد الرؤى لكن الجامع دائماً هو عنوان لا يغيب: الوحدة الوطنية ضمن إطار التعددية التي يمكن أن تقويها لا أن تضعفها، وتحميها لا أن تسلمها لمعاول التفرقة وثقافة الكراهية حتى لا يتحول الوطن إلى جُزر معزولة لا لغة بينها ولا حوارا ولا كسرا طال انتظاره لجدران الخوف من الآخر والقلق من ملامحه. إذن ثمة مكتسبات على مؤسسة حوار أن تنميها، لكن من المهم أن نستعيد جملة أفكار بمناسبة انتهاء مؤتمر الحوار الوطني الخامس، ونحن نلحظ أن ثمة تقدما في تفكير وإدارة مؤسسة حوار وفي أجواء إعلامية صحية، هناك قضايا لابد من النظر لها بعين الاعتبار، إذا كان علينا أن ننظر لمؤسسة حوار بما يتجاوز احتفالية موسمية وبيان ختامي وحفل تكريم. من أولى المسائل التي تُثار، مسألة جديرة بالبحث عن إجابة مقنعة، وحتى اللحظة لا أحد يملك الإجابة بمن فيهم القائمون على مركز الحوار الوطني.. إنه السؤال الأكثر أهمية: إلى أين يمكن أن يمضي بنا الحوار.. هل يظل حواراً من أجل الحوار، أم هو حوار من أجل البحث عن مخرج لأزمات ذات علاقة بالشأن الوطني؟.. منذ مؤتمر الحوار الوطني الأول والسؤال مطروح، وإلى اليوم لا تبدو ثمة نتائج أكثر من جاذبية الحوار بين النُخب المشاركة، مع الاعتراف بما أشاعته هذه الأجواء من نشر لثقافة حوار - على المستوى الإعلامي على الأقل - إذ ما زلنا نحتاج استطلاعات للرأي تكشف مدى تأثير هذا المشروع على مستوى القاعدة الاجتماعية وحجم تأثيره في البيئة الثقافية المؤسسة لمفاهيم المجموع. العام الماضي دعا المركز الوطني للحوار مجموعة من المثقفين والصحفيين والإعلاميين والأكاديميين لمركز الأمير سلمان الاجتماعي، وكان اللقاء مع رئيس المركز من أجل مناقشة قضايا ذات صلة بالمركز وآلية العمل فيه والنتائج المتحققة حتى ذلك الوقت من فعالياته.. وعلى الرغم أن أكثر الأسئلة جدلاً المتعلق بتفعيل التوصيات من أجل التحرك من منطقة حوار النُخب إلى منطقة تعزيز قيمة ونتائج وتوصيات مؤتمرات الحوار الوطني.. إلا أن الإجابة الحاضرة في ذهن رئيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، أن المركز وسيلة لمساعدة صانع قرار وليس معنياً بتفعيل فكرة توصية. حسناً، يمكن أن نقول إن المركز ساهم بشكل جدي في تعزيز قيم الحوار بين تلك النُخب التي يدعوها لموسم حوار وأشاع أجواء القبول بالآخر، وساهمت التغطية الإعلامية والنقل التلفزيوني هذا العام في كسر حاجز القلق من نقل ما يدور في المؤتمر إلى بيوت الناس.. لكن مع توالي مواسم الحوار وتكرار ذات المناسبات ستختفي حتماً مفاجأة قبول النُخب بفكرة الاختلاف وإدارة الجدل بين المتحاورين.. وسيكون من باب أولى البحث منذ الآن عن معنى أن تكون ثمار الحوار قاصرة على مؤتمر سنوي ونقل تلفزيوني واحتفالية بيان.. ثمة نتائج جانبية ملموسة ومقدرة وأتت أُكلها، وأخرى أساسية تتعلق بمعنى الحوار حول الشأن الوطني والغاية النهائية منه والضرورة الحتمية للاستفادة من مخرجاته، وما لم ينظر للمسألة من جانب العائد من موسم حوار كأن يكون مركز تفكير لإعانة صانع القرار على المضي في مشروع تطوير أو إصلاح بما يحقق تحصين الوحدة الوطنية بكل الوسائل الكفيلة بحمايتها وتقوية مناعتها ومقاومة أي احتمالات لإضعافها، فربما ستبقى النتائج المتحققة في مستوى إشاعة ثقافة حوار.. وأخشى حتى هذه أن تكون على مستوى النُخب المشاركة لا على مستوى التأثير المستهدف لبنية ثقافية اجتماعية تعززها الممارسة اليومية، وتقوي شروطها استلهام حالة قبول لوجهات النظر الأخرى - وهو الشرط النقدي - مهما تعددت اجتهاداتها ما دامت تنسجم مع ثابت الدين - بمفاهيمه الكبرى - وثابت الوطن بمرجعيته الوحدوية. ولذا فإن إحالة بعض التوصيات التي يمكن تنفيذها والتي تستلهم مفاهيم بيان ختامي هو ما يعزز نتائج حوار وينقله إلى مشروعية تتجاوز حالة إشاعة ثقافة موسمية للحوار الوطني. أعتقد اليوم وبعد المؤتمر الخامس للحوار الوطني، ولأن المركز هو أقرب ما يكون إلى مراكز التفكير يقوم على فكرة البحث والحوار الموسمي حول القضايا موضوع الجدل، فعليه أن يقرأ أيضاً بجانب هاجس النُخب، هاجس القاعدة الاجتماعية، ويحاول أن يكون مركز دراسات للرأي العام، وربما كان من أولى الأوليات أن تكون ثمة دراسة مسحية تقيس مدى تفاعل القاعدة الاجتماعية مع مشروع الحوار الوطني حتى اليوم، والقضايا الإشكالية التي ينبغي أن تكون موضع حوار، وتطلعات عينات البحث لدور وعلاقة المركز بالشأن العام.. استلهام فكرة حوار لا يكفي في ظل غياب قياسات حقيقية للرأي العام.. وإدارة مشروع حوار بين نخب تُنتقى من هنا وهناك غير كاف لفهم العلاقة بين القاعدة الاجتماعية/الثقافية وبين وعي النُخب أو أولوياتها. ثمة مسائل أخرى تُستدعى في قضايا الحوار الوطني، فمع القناعة التامة بأن علاقة الداخل بالخارج، أو علاقة الأنا الوطني/السعودي بالآخر هي مسألة مهمة من ناحية التأصيل وإقرار شكل العلاقة ومحدداتها بعيداً عن ذلك اللبس الذي أحاط بتلك العلاقة، وجعلها للأسف أقرب إلى علاقة كراهية من كونها علاقة إنسانية، ومع التقدير التام لكل الجهود التي بذلها المركز حتى اليوم من أجل تأصيل هذه العلاقة وردها إلى معاني أكثر سمواً وإشراقاً واقتراباً من ملامح علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.. إلا أن الأكثر أهمية أن يكون المركز معنياً أكثر في المستقبل بمسائل الداخل وعليه أن يختار الموضوعات التي تمثل هاجساً وطنياً، وأن يتحاشى الغرق في العموميات دون التفاصيل الضرورية وأن تكون تلك الموضوعات في الشأن الذي يتطلب حالة حوار وخلق مراكز تفكير بمستقبل مشروع وطني يتقوى بالمبادرة على علاج مشاكله عوضاً عن تجاهلها. إن الحوار حول الآخر ومع الآخر قيمة وحاجة ماسة لتأسيس علاقات وفهم واستيعاب أفضل، لكن يبقى الحوار حول الشأن الوطني وقضايا الداخل التي تحتاج لمزيد من الحوار هو المشروع الأكثر اقتراباً من حس القاعدة الشعبية والاجتماعية التي تنتظر أن يكون الحوار عنواناً لبحث قضايا تشكل هاجساً يومياً لها، وأكثر اقتراباً لحسها ووعيها بمشكلاتها.. ولستُ بصدد التمثيل لتلك القضايا فالمركز يملك الآلية التي تمكنه من اكتشاف ما هي تلك القضايا إلحاحاً على مستوى الداخل وما هي أكثر القضايا التي تحتاج إلى مزيد من دراسة وحوار في سبيل استلهام حالة توافق وطني حول الشائك منها أو المسكوت عنه حتى اليوم. ثمة مسألة جانبية، وهي ذلك الترحل الموسمي بمؤتمر الحوار الوطني من مدينة سعودية إلى أخرى، وأعتقد أن فكرة أن يكون المؤتمر في كل عام في إحدى مناطق المملكة، هي فكرة نبيلة ومبنية على استلهام حالة وحدة وطنية.. لكن أعتقد أن يكون مؤتمر الحوار السنوي في عاصمة الوطن أكثر استلهاماً لمعاني الوحدة، فهو من ناحية سيكون أكثر إشعاعاً على مستوى التغطية، وأكثر قرباً من فكرة أن يكون بعاصمة وطن تمثل رمزه التاريخي الوحدوي ومنطلق بنائه.. جميل أن يتدفق المثقفون السعوديون لمنتدى حوار إلى عاصمة وطنهم، وجميل أن تحتضن العاصمة الواحدة حالة فكرية ثقافية تعددية تناقش قضايا الوطن في عاصمته.. العاصمة رمز وحدوي أكثر منها حالة احتفالية، وكونها تشد إلى المركز مثقفي الأطراف تعطي دلالة من نوع أو آخر لمعنى رمزية الوحدة، الثابت الذي يظلل فكرة حوار.