لا أعتقد أن أحداً سيجادل في تفوق الولاياتالمتحدةالأمريكية في هذا العصر ليس في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري فحسب، بل أيضاً على المستوى العلمي والتقني والثقافي. فالولاياتالمتحدة بقيت القوة الوحيدة في الساحة السياسية والعسكرية الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أما في المجال الاقتصادي فعلى الرغم من وجود منافسين لها وبخاصة الاتحاد الأوروبي واليابان، إلا أنها لا تزال تتحكم في مفاصل الاقتصاد الدولي وتستحوذ لوحدها على أكثر من52? من الناتج العالمي. أما في المجالات العلمية والتقنية والثقافية فالعلماء الأمريكيون هم الأكثر استحواذاً على جائزة نوبل في الخمسين عاماً الماضية، وفي هذا العام 4002م حصل 7 علماء أمريكيين على جائزة نوبل من 11 عالماً وناشطاً، فجوائز الطب والكيمياء والفيزياء يكاد يسيطر عليها الأمريكيون بلا منازع. والشركات الأمريكية في تقنية الحاسب والمعلومات مثل مايكروسوفت وانتل وسيمسكو تسيطر على أكثر من 09? من سوق تقنيات الحاسب والمعلومات في العالم بأسره. بل وقبل ذلك لم يكن اختراع الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت والأقمار الصناعية والتقنيات الدقيقة سوى من مبتكرات العقول الأمريكية ثم تلقفتها الدول الاخرى بالاستهلاك أو التصنيع والانتشار. أما على المستوى الثقافي فالولاياتالمتحدة تستحوذ على النصيب الأكبر من صناعة الكتاب والنشر وإنتاج الأفلام السينمائية والتلفزيونية ومن صناعة المعلومات بشكل عام. ولكن ما هو سر هذا التفوق الأمريكي؟ وكيف أصبحت الولاياتالمتحدة القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في العالم؟ هل المسألة تكمن في الثروات التي تحتضنها أرض أمريكا المترامية الأطراف؟ أم أن المصادفة التاريخية جعلت أوروبا واليابان تتأخر اقتصادياً وعسكرياً بعد الحربين العالميتين وأن تكون ميداناً للحرب الباردة التي أرهقت دولها بالتزامات وتحفزات غير عادية؟ لماذا إذن لم تظهر قوة أخرى في آسيا أو أمريكا الجنوبية أو أفريقيا لمقاومة القوة الأمريكية الناهضة؟ ولماذا سقط الاتحاد السوفييتي المنافس الرئيسي للولايات المتحدة بعد حوالي خمسين عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية ليترك الساحة مفتوحة أمام الهيمنة الأمريكية على العالم؟ أسئلة قد تبدو مكررة أو ساذجة للذين يهتمون بالتاريخ وبالحضارة وبالتقدم الإنساني، ولكنها أسئلة جوهرية يجب التأمل فيها ومناقشتها لمعرفة أسرار التقدم والنهضة بدلاً من أن نكرر ندب حظنا، أو أن نتعلق بالنظرية التآمرية في التاريخ، أو أن نعتقد كما يرى بعض المتعصبين أن أمريكا لا تمتلك حضارة إنسانية وإنما هي حضارة الغاب والقوة الاقتصادية والعسكرية. حقيقة إن عوامل النهضة والتقدم والإزدهار العلمي والحضاري لا يمكن حصرها في عامل واحد أو عاملين اثنين أو ثلاثة، بل هي مجموعة عوامل تتضافر جميعها لتحقيق النمو والنهضة والازدهار، ولكن كافة العوامل لا يمكن حصرها في مقال مختصر في جريدة يومية، بل هي تحتاج إلى دراسات تاريخية معمقة يتوفر فيها الموضوعية والمنهج العلمي والرغبة في المعرفة والاستفادة. لقد نشأت الولاياتالمتحدة كدولة - كما هو معروف - بعد صراع مرير بين المهاجرين من أوروبا والسكان الأصليين وتأسست في دولة واحدة لها دستور واحد واستقلت عن بريطانيا رسمياً عام 6771م، ثم خاضت صراعات داخلية من أهمها الحرب الأهلية التي نشأت بين ولايات الشمال وولايات الجنوب. ولكن النهضة الحقيقية جاءت بعد ذلك نتيجة الاهتمام بالتعليم منذ مراحل مبكرة، ولم يكن الاهتمام فقط بالتعليم الأساسي بل وبشكل خاص بالتعليم العالي الذي هو مادة هذا المقال والمقالات القادمة، فقد نشأت الكليات والمعاهد العليا منذ تاريخ مبكر لم تشهدها دولة أخرى بمثل هذا الاهتمام فجامعة هارفرد - على سبيل المثال - أول جامعة أمريكية أنشئت عام 6361م وجامعة بيل أنشئت عام 1071م، وكلية دارتموث 9671م، وجميع هذه الكليات أنشئت قبل الاستقلال وكانت كليات أهلية أنشئت بمبادرات من أفراد ومؤسسات خيرية والتي أصبحت سمة حضارية بارزة في مسيرة التعليم العالي في الولاياتالمتحدة. وعلى الرغم من الاهتمام بالتعليم حتى يومنا هذا إلا أن الولاياتالمتحدة لا تذكر في الغالب بأنها متفوقة في التعليم العام والأساسي مع أنها تملك نظاماً تعليمياً ممتازاً ومدارس يتوفر فيها كافة العناصر الضرورية لبناء الإنسان وتنشئته علمياً وثقافياً ومهنياً. ولكن النظام التعليمي الأساسي يختلف من ولاية إلى ولاية من منطقة تعليمية إلى منطقة بحسب غنى أو فقر المنطقة والولاية، كما أن المناهج والمعلمين يختلفون من حيث كفاءتها وكفاءتهم والمميزات التي يحصل عليها المعلمون تختلف باختلاف الإمكانات الاقتصادية في الولاية أو المنطقة التعليمية أيضاً. وعلى سبيل المثال فنتائج طلاب الولاياتالمتحدة في الاختبارات السنوية التي تجريها منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD يحصلون في الغالب على مستويات متوسطة، وفي النتائج الأخيرة التي اعلنتها المنظمة قبل أسبوعين (6/21/4002م) حصل طلاب وطالبات الولاياتالمتحدة في اختبارات الرياضيات على المرتبة (52) من بين 04 دولة، وفي العلوم على المرتبة (02) وفي القراءة على المرتبة (21) وفي حل المشكلات على المرتبة (62)، بينما الدول التي حصلت على الخمس مراتب الأولى كانت فنلندا وهونغ كونغ واليابان وكوريا وكندا واستراليا (الدولة العربية الوحيدة التي شارك طلابها في تلك الاختبارات كانت تونس وحصلت دائماً على المركز الأخير، ما عدا في اختبارات الرياضيات حصلت على المركز قبل الأخير). والولاياتالمتحدةالأمريكية أيضاً لم تُعرف بتفوقها أو تميزها في مجال التعليم الفني والمهني، بل انه لا يعرف لها نظام تعليمي بارز في هذه المجالات كما هو موجود في ألمانيا - على سبيل المثال - في النظام التعليمي المزدوج Dual-System الذي كان مثار اعجاب دول عديدة قلدته فيما بعد وهو النظام الذي يتيح للطالب الالتحاق بمسار تعليمي مهني ابتداءً من الصفين السادس والسابع ويتيح له في نفس الوقت إكمال دراساته العليا فيما لو رغب في ذلك. كما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تعرف نظام المؤهلات المهنية التي طبقته بريطانيا بكفاءة وأصبح سمة من سمات نظامها التعليمي والتدريبي والذي يتيح بتقسيم مستويات المهن إلى خمسة أو ستة مستويات ومن ثم يتم التأهيل العلمي والمهني حسب تصنيف المهنة المحدد في المستوى المحدد. وعلى الرغم من توفر العديد من معاهد التدريب العليا في الولاياتالمتحدة وتوفر مسار التدريب المهني في كليات المجتمع وكليات التقنية التي بدأت بالظهور مؤخراً إلا أن هذه البرامج لم تأخذ هوية متماسكة لتعلن عن وجود مستوى متميز للتعليم المهني والفني يمد سوق العمل في الولاياتالمتحدةالامريكية بالأيدي الماهرة، بل إن معظم تلك المسارات ينظر إليها على أنها تكملة لنظام التعليم العالي وليس منفصلاً عنه كما هو الحال في بعض الدول الأخرى. إذن فالولاياتالمتحدة لم تتفوق في التعليم العام لا التعليم الفني والمهني ولا في مؤسسات التدريب المتخصصة، وإنما تفوقت في نظام التعليم العالي وأوجدت لها أنظمة وممارسات وتجارب أصبحت مثار اعجاب وتقليد من كافة دول العالم. فلا يوجد في دول العالم كافة من الجامعات والكليات والمؤسسات الأكاديمية مثلما يوجد في الولاياتالمتحدة من حيث عددها وتنوعها وكفاءتها العلمية، وتوفر الأنظمة والتقاليد الأكاديمية العريقة التي ساهمت في احتضان أبرز الكفاءات العلمية من كافة دول العالم وأتاحت لهم الحرية ووفرت لهم الامكانات للعمل والبحث والتدريس ما لم توفره دولة اخرى في العالم في نظام لا يفرق بين البشر حسب اللون أو العرق أو الدين أو الجنسية. في تقديري أن التعليم العالي في الولاياتالمتحدة كان واحداً من أهم عوامل التفوق التي جعلت أمريكا تتبوأ مركز الصدارة وتتربع على قمة الدول اقتصادياً وعلمياً وثقافياً ومن ثم عسكرياً وسياسياً. ونتحدث في المقالات القادمة - بإذن الله - عن أبرز سمات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة.