أول مرة شاهدتُ فيها المسرحي العراقي الكبير يوسف العاني منذ سنوات في بغداد.. يومها جاء إليّ حيث أسكن في فندق القصر العباسي.. وكان العراق لا يزال يحتفظ ببعض لياقته الثقافية.. فهناك شعراء ونقاد ومسرحيون وتشكيليون يمارسون نشاطهم في الحد الأدنى من الحرية. أمس الأول التقيته مرة أخرى.. ورغم الفارق الزمني الذي يفصل بين اللقاءين بقرابة ربع قرن.. إلا أنني وجدته هذه المرة أكثر حيوية، رغم تكالب أمراض الضغط والسكر الملازمة للكتاب والفنانين.. فما بالك بمبدع شديد الحساسية والحيوية مثل يوسف العاني.. إنه يكاد لا يهدأ ولا يكل.. يخرج من تمثيل دور مركزي على خشبة المسرح، إلى آخر في البلاتوه السينمائي، بإصرار عجيب.. بل قل بتفانٍ يصل إلى حد تشعر معه، أنه لو توقف لحظة عن أداء أدواره لتوقف نبضه عن الخفق، ودمه عن الجريان! إن سيرته حافلة منذ وقف أول مرة على خشبة المسرح سنة 1944م ليؤدي دوراً من فصل واحد.. لينطلق اسمه في سماء المسرح العراقي.. لم يكتف بالنجاحات التي حققها فيه.. بل أخذ يستجيب لإغراءات كاميرا السينما الباهرة، فراح يقدم سنة 1957م فيلم «سعيد أفندي» من إخراج كامران حسني المتخرج حينئذ من أمريكا.. العجيب انه رغم المدة الزمنية الطويلة التي مثل فيها بطولة هذا الفيلم العراقي الرائد.. فإن معهد العالم العربي رأى أن يكافئه بجائزته سنة 1998م!! بينما كان قد لعب أدواراً عديدة بين المسرح والسينما، ممازجاً بين مدارس المسرح الحديث من الواقعية الاجتماعية، إلى نظرية بريخت في المسرح الملحمي.. وكذلك جسَّد شخصيات عراقية تراوحت بين محمد مهدي البصير الشاعر المعمم، الذي ألهب حماس العراقيين، في هبّاتهم الوطنية ضد الاستعمار البريطاني.. وكذلك ملا عبود الكرخي الشاعر الشعبي، وصاحب جريدة الحيزبون.. الأول أخذ نصيبه من عبقرية يوسف العاني الأدائية في فيلم «المسألة الكبرى» سنة 1983م.. والثاني قدم عنه تجربة فنية مثيرة، زاوجت بين المحاضرة عنه، وتمثيل شخصيته الكاريكاتورية في عمل أسماه العاني ب «المحاضرية»!! أي على غرار توفيق الحكيم «المسرادية» حين زاوج في بعض أعماله بين الحوار المسرحي، والسرد الروائي. حينما سألت يوسف العاني وأنا أستعرض وإياه تجربته الفنية الغنية - ما إذا كان استُخدم في فيلم «الملك غازي» الذي أصدرته حكومة صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية، وهو يجسد شخصية الحوذي، سائق عربة الحصان.. وهي كاركتر بغدادي شائع لمن عاش في العاصمة العراقية.. أجاب بالنفي مؤكداً على أنه وبعض زملائه الفنانين استطاعوا التحايل على الأوضاع السياسية الخانقة، بالابتعاد عن مداولة القضايا المباشرة، إلى حيث تم استدعاء شخصيات تاريخية ومعاصرة فوق خشبة مسرح الفن الحديث الذي لم تتوقف عروضه منذ تأسيسه منذ 1952م. أما في السينما المدعومة.. بل قل الممولة من الدولة الاستبدادية.. فإنه ما كان له ولا لغيره الإفلات من إلزامات النظام السابق وإكراهاته.. ومع ذلك سمعت - ذات مرة - الكاتب المسرحي الكويتي عبدالعزيز السريع يقول.. إن يوسف العاني انفعل غاضباً محتجاً في وجه لطيف نصيّف جاسم وزير الإعلام والثقافة العراقي في احدى المناسبات الثقافية في بغداد.. وكانت تلك خصيصة امتاز بها هذا الفنان الفذ بين زملائه، نظراً للمكانة الشعبية والمعنوية الواسعة التي حققها في العراق والعالم العربي..