بعد أزقة الدرعية، وحاراتها، ونخيلها، وشعابها، وكهوف جبالها، وامتدادات وادي حنيفة وتنوعاته الجغرافية، وتفرعاته، وتضاريسه، وملاعب الصبا والشباب فيه، ترتبط ذاكرتي بالرياض. ولا تزال متوقفة أو غير قابلة للاستيعاب عند شارع الظهيرة، والعطايف، ودخنة، ومعكال، وسوق السدرة، والصفاة، وأشيقر، وإذا مارست الذاكرة نوعاً من الترف، والبذخ لفضاء المكان والزمان تبرز كما الأحلام الوردية، كما غيمة حبلى في سماء نجد، أمكنة كخنشليلة، وهيت، والمعذر. الذاكرة ترتبط بالأمكنة، والأمكنة هي إرثنا من التجارب، والفهم، والأخطاء، وربما - أحياناً - الحماقات. وهذه هي مكونات الشخص، وتفاعله الحياتي مع بيئته، وثقافته، وتكوين عقله، ووعيه، والأمكنة هي لحظات زمن، وعمر، وارتباطات حميمة مع التفاصيل، والحكايا، والأحلام، واستشراف مستقبلات لا تكون باذخة بقدر ما تكون محدوديتها انعكاساً مواقع بسيط ومحدود. إذن: ذاكرتي توقفت تماماً عند جغرافية معينة لمدينة أحبها كثيراً، وأتماهى مع طبيعتها، ووداعتها، وحماقاتها، وشراستها التي طرأت عليها، لذا فإنني كنت في حالة ارتباك وحذر وتشتت كما طائر مربوط من ذيله عندما تواجدت في الرياض قبل أيام، وتعاملت مع أحيائها وامتداداتها الجديدة في جنوبها، وشرقها، وغربها، وشمالها. ليست هذه هي الرياض التي كانت في الذاكرة. ربما لم تكن لدي القدرة على استيعابها، والتعامل معها. ربما أن الحنين والتماهي مع أمكنة حب، وعلاقات، وصداقات، وأحلام، وأحاديث، وأحداث لا يسمحان لي بمحاولة الاندماج والتكيف مع الامتدادات والتسميات، والمسميات الجديدة، إذ يبدو أن مسمى سوق أشيقر، أو سوق السدرة يحدث زلزالاً في الحنين، ويغوص في نسغ التكوين تجاه مسمى «كارفور» أو «هايبر بندة» التي لا أرى فيها وفي سواها إلا اعتداءات صارخة على مكونات حياة جيل، وذاكرة مدينة، وقبولي بها كحتمية تطور مفاهيم حياتية، واقتصادية، وسكانية، وثقافية لا يعني ضرورة تناغمي معها، أو الاقتراب من تأثيراتها في الوعي، والسلوك، والفهم، وتبديل أفق وفضاءات الذاكرة. تجاه ردة الفعل من خلال التماس المباشر مع الرياض الأحياء، والامتدادات الجغرافية، والسكانية، ومظاهر الحياة السريعة واللاهثة والاستهلاكية جداً توقفت طويلاً، طويلاً عند الصفحة الأولى مؤطرة في مكتب الزميل الأستاذ رئيس التحرير لأول عدد صدر من جريدة «الرياض» وفي أسفل الصفحة، وعلى امتداد ثمانية أعمدة كتب: «مع هذا العدد خارطة مدينة الرياض الحديثة، هدية للقارئ..» تمنيت أن أحصل على هذه الخارطة، لأستعيد عبر الأمكنة، والشوارع والأحياء كل مخزون الحنين والعشق والحب، ورفقه الصبا والشباب والأحلام والتطلعات. قلت: تلك مدينتي، ذلك عشقنا. أما الرياضالجديدة فقد تعدت على خصوصياتنا. ومفاهيمنا. هذا شيء. وشيء آخر.. زاد من غربة الذاكرة. لقد وجدت الناس يتكلمون لغة جديدة، لغة لا علاقة لي بها. لا أفهمها، لغة شرسة. ففي كل مكان أجد من يتحدث كثيراً عن «المؤشر» و«المحافظ» و«صناديق الاستثمار» و«نقاط المؤشر» و«سوق الإقفال» و«سوق الافتتاح». وجدت في مكتبة أخي عبدالرحمن فهد الراشد ديوان «ابن سبيل» فأخذ وقتي..؟! استأذن..!؟