المظاهرات التي نقلتها شبكات الأخبار التلفازية من القاهرة، وهي تصور مصريين أقباطاً في حالة غضب وهياج، احتجاجاً على زوجة قس بمحافظة البحيرة أعلنت زواجها من مهندس مسلم بعد إسلامها.. هذه المظاهرات ما كان لامرئ أن يظن عناصرها من الأقباط أوالمسلمين، لولا صوت المذيع أو عنوان اللقطة.. إذ اعتادت نشرات الأخبار هذه الأيام، أن تضع عناوين ثابتة لأخبارها.. ذلك أن المتفحص في وجوه المتظاهرين، لن يجد فرقاً في سيماء هذه الوجوه .. ولو نقلت أصواتهم على الملأ لما وجدت لهجة القبطي مختلفة عن لهجة المسلم، قاهرياً كان أو غير قاهري.. مدنياً أو ريفياً.. وحدة السحنة واللسان تعبر عن ميراث طويل من التلاحم الوطني، بين أبناء الهلال وأبناء الصليب، من الذين شكلوا في سنوات الكفاح سداً منيعاً ضد الاستعمار، وحين يلتفت المصريون، في سنوات استقرارهم إلى ادارة شؤونهم المدنية، تجد كلاً بما عنده راضٍ والرأي مختلف - كما يعبر الشاعر العربي - حتى وجدنا في نصف القرن العشرين الأول مكرم عبيد الشخصية الوطنية القبطية، يكاد يستأثر بحب المسلمين قبل المسيحيين، احتراماً لمواقفه الشجاعة المشهودة.. ?? هذا الرجل بلغ من اعتزازه الوطني بالشخصية المصرية، وتقديره للمجتمع ذي الأغلبية المسلمة، أن يصوم شهر رمضان، ويتلو قراءة القرآن الكريم، ويعجب بنبي المسلمين وخاتم النبيين محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام. لم يقتصر منا خ التسامح والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، في سنوات ما قبل هذا العصر المسموم.. على وقوف شيخ الأزهر وأبناء الكاتدرائية متصافحين متعانقين أمام صور الكاميرات، في المناسبات الهامة.. بل إن قيمة التسامح قد تغلغلت في نفوس قادة الرأي العام من الكتّاب والمثقفين والمواطنين العاديين.. فها هو نظمي لوقا أحد أبرز مثقفي مصر من الأقباط، يجد نفسه بين أحضان معلم مصري مسلم في الريف يلقيه والده بين يديه ليتعلم أصول التربية والفصاحة والإيمان.. فيقوم الشيخ الأزهري على تربيته وتعليمه دون تبشير.. بل إنه كان يحفظ له خصوصيته الدينية كمسيحي.. ومذكراً إياه أن السيد المسيح عليه السلام محل تقدير المسلمين وحبهم.. كيف لا؟! وقد نزلت سورة كاملة باسم أمه العذراء مريم عليها السلام في قرآننا المجيد.. وتردد اسمه بين آياته أكثر من ورود اسم نبينا محمد بن عبدالله عليه السلام. فما يفتأ هذا الصبي القبطي، متشرباً روح الإسلام، وإنسانية رسوله الكريم.. حتى ينبري - وقد برز كاتباً نحريراً في شبابه وكهولته - يرد على افتراءات المستشرقين حول النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» منتصراً إليه في سيرته ومواقفه وعظمته، في كتابيه الرائعين «وامحمداه».. و«محمد الرسالة والرسول».. ?? أما العقاد - أديب مصر العملاق - فإنه يمد خطوة باتجاه بني وطنه الأقباط كاتباً عن السيد المسيح واحداً من روائع كتبه.. هذا في حين كان زواج المسلم من مسيحية يجري سهلاً ميسوراً، متى ما ربط الاثنين رباط مقدس من الحب والألفة والتساكن، فماذا جرى مؤخراً ليحتشد ذلك الحشد القبطي، صخاباً محتجاً، متعاركاً مع رجال الأمن، محاصراً الكاتدرائية ومعتصماً بها، مما اضطر البابا شنودة الثالث إلى التوجه إلى وادي النطرون معتكفاً.. هذا أسلوب انتهجه الرجل الوطني الغيور كلما ادلهمت ببلده ظلمة من الظلمات، وكأنه يعلن احتجاجه على ما بلغته الحالة الاجتماعية والثقافية المحتقنة، في مجتمعه - بل ومجتمعات العرب والمسلمين والعالم -.. هذا المبلغ المأزوم، حيث نشهد جميعاً توتيراً مخيفاً للنزاعات الدينية والمذهبية، في أعقاب تداعيات الحادي عشر من سبتمبر المشؤوم، وما جاء قبله من كلام ونظريات عن «صدام الحضارات» عند حدود دموية بين المسيحيين والمسلمين.. حسب أطروحة صموئيل هنتنجتون!!.. تلميذ برنارد لويس اليهودي الصهيوني، ومنظّر أفكار الصراعات في وسط المسيحيين المتصهينين الأمريكان الذين أعادوا انتخاب بوش الثاني لولاية ثانية، في ادارة بدأ شرر الغلو والعدوان يتطاير من عيونها ضد المسلمين!