مر على مجتمعنا حين من الدهر عانى فيه الناس فقراً مدقعاً حملهم على حفظ ما يرزقون به من فتات الشعير وحبات الأزر والتمر، وادخار الجميع لنوائب الدهر، وقوارع الزمن، مع شكر المنعم بما عليهم وسؤاله سبحانه من فضله وكرمه، وبمثل هذا الشكر الصادق والاقتصاد النافع تثبت النعم ولا تزول، وتتوالى الخيرات، ولا تحول. إن استحضار الناس لهذا الحال الذي كانوا عليه قديماً ضروري جداً لإدراك عظمة النعم التي أنعم الله بها عليهم في هذا العصر، حيث وسع الارزاق والبركات، وأفاض الأموال والخيرات، بعد فقر شديد، وإعواز لضروريات الحياة، وبالمقارنة بين الحال السابق واللاحق يغمر المرء الصادق شعور بفضل الله فيشكره ويحمده. غير أن هذا الشعور الجميل يؤسفك ألا تراه في صور عديدة درج عليها المجتمع، ومن ذلكم ما يلحظه الجميع في ولائمنا الليلية، وأفراحنا العيدية، واحتفاءاتنا الموسمية، من تبذير في الولائم لا يبرره منطق، وإسراف في الموائد لا ترضاه نفس مؤمنة، وبذخ في الكماليات هو بتبذير الشياطن ألصق، والله يقول في محكم كتابه المبين: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}. ألا ترى في تلك الولائم «مفطحاً» كاملاً لم تلمسه يد، وذبيحة تامة بأصولها وحواشيها لم تلتفت إليها عين فضلاً عن أن يتذوقها لسان، وينقضي العرس ويدير أصحابه مهرولين لا يدرون عن بقايا الطعام شيئاً ولا يهتدون إليه سبيلاً، ولا ندري عن مصير تلك الأواني الممتلئة، والمفطحات المكدسة، هل تلقفها بطون جائعة، أو تشتمل عليها قمامات شارع؟ وسواء كان هذا أو ذاك فصاحب الشأن عن ذلك غافل، والشعور بالنعمة عنه زائل. ويبقى الأمل - بعد الله تعالى - في الجمعيات الموقرة التي يجب عليها تتبع تلك الولائم تتبع أشعب، ولا عليها أن ترمى بالتطفل ما دامت تجمع البقايا، وتستر عن أصحاب الولائم الرزايا، كما نرجو صادقين أن يكون هناك تعاون بين تلك الجمعيات والفنادق والمطاعم وقصور الأفراح لجمع ما تبقى من تلك الولائم لتسد به بطون الجائعين، وتروي غلة المحتاجين.