من نافلة القول أن لكل ظاهرة اجتماعية مهما كان نوعها ودرجة ظهورها وتمركزها داخل المجتمع الحاضن لها عدة أسباب تتفاعل مع بعضها عندما تتوافر شروط وظروف معينة لتنتج الظاهرة المعينة، هذه حقيقة بدهية إن لم نتجاسر على القول بأنها أصبحت بمثابة قانون اجتماعي صالح لأخذه بالاعتبار عند دراسة أيٍ من الظواهر الاجتماعية. لكن من الصحيح والجدير بالذكر أيضاً أن هناك دائماً - أو غالباً على الأقل - سبباً رئيسياً يؤدي وفقاً لرجحان حمولته الثقافية أوالاقتصادية أوالسياسية التي يتوافر عليها إلى دفع الظاهرة بشكل أكثر تأثيراً وأسرع ظهوراً مما سواه من العوامل الأخرى، سواء كانت رئيسية أم ثانوية، ومن ثم يصبح من اللائق والأنجح أثراً في أي علاجٍ يُرتجى مستقبلاً لتلك الظاهرة محل الدراسة، أن يتم التركيز على ذلك العامل أو السبب الرئيسي وراء نشوء تلك الظاهرة سواء أكانت - أعني الظاهرة - دائمة أم مؤقتة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال إهمال دراسة العوامل الأخرى لصالح التركيز على العامل الرئيسي، غير أن الأمر يتطلب في ظل وجود سلم أولويات متوقع لدراسة الظواهر الاجتماعية، البدء والتركيز بشكل أكثر على ذلك العامل الرئيسي باعتباره حامل العبء الأكبر في مسيرة حضانة وتطور وبروز الظاهرة الاجتماعية. أحداث فرنسا التي اتخذت صورة اضطرابات عامة ومدمرة ومخيفة ومؤذنة بما هو أسوأ منها، والتي قام بها وتولى كبرها مجموعات من المهاجرين الوافدين على فرنسا القاطنين في ضواحي مدنها - جلهم من العرب والمسلمين - لا تخرج في تصوري عن ذلك النسق الذي يَسِم الظواهر الاجتماعية من حيث درجة تركز عامل رئيسي فيها، عادة ما يلعب دور الباعث والمحفز الأكبر بمساعدة عوامل أخرى أدت في النهاية إلى بروز تلك الظاهرة على السطح، هناك بلاشك عوامل تهميش من نوع ما لتلك الطوائف وعدم تيسير سبل اندماجها في المجتمع الفرنسي وشيوع البطالة بين أفرادها، هذا كله مفهوم ومأخوذ في الاعتبار في سياق محاولة فهم بواعث تلك الاضطرابات، ولكنها تظل في تصوري بواعث وأسباباً ثانوية لا يمكن في رأيي أن تؤدي بمفردها إلى الضغط باتجاه بروزها على شكل فورات عنف كتلك التي صاحبتها، خاصة إذا كان المجتمع الذي يضم مثل تلك المجموعات يتوافر على آليات ديمقراطية متاحة أمام الجميع للتعبير عما يمكن أن يحسب على قائمة تلك الأسباب الثانوية، ما دام الأمر على هذا الوصف الذي لا يخرج عن طبيعة العمران البشري، فما هو السبب الرئيسي أو المكون الجذري لتلك الاضطرابات؟ السؤال في رأيي مشروع خاصة إذا تذكرنا أن تلك الاضطرابات وما خلفته من نتائج كارثية ستؤدي لاحقاً إلى مزيد من الإجراءات التي ستتخذ مستقبلاً ضد تواجد وسهولة حركة مثل أولئك المهاجرين في الغرب كله لا في فرنسا وحدها، ربما باعتبار أن ثقافة الغرب قامت في الأساس على محاربة اتخاذ العنف كأساس للتعبيرعن الرؤى أو المطالب أياً كانت غايتها، لا سيما واليمين المتطرف في فرنسا والذي نافس مرشحه (جان ماري لوبن) مرشح الحزب الديجولي (الرئيس الفرنسي الحالي شيراك) بقوة في انتخابات الرئاسة الفرنسية الماضية يعتمد على أجندة تجعل على رأس غاياتها الأساسية إقناع الشعب الفرنسي بأن أولئك المهاجرين المقيمين على الأرض الفرنسية عامل رئيسي من عوامل عدم الاستقرار المتوقع مستقبلاً سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي ومنه بطبيعة الحال إن لم يكن على رأسه الأمن الوطني، وشعار هذا الحزب الذي خاض على أساسه الانتخابات الرئاسية الماضية هو «فرنسا للفرنسيين» وبطبيعة الحال فإن الفرنسيين المقصودين بهذا الشعار هم الفرنسيون الأصليون، ومن نافلة القول أن هذه الأجندة العنصرية ستجد ضالتها في دعم مسيرتها - بالإضافة إلى الأحداث الأخيرة في فرنسا - في ما يحصل بين الفينة والأخرى من حوادث متطرفة في بعض البدان الأوروبية أبطالها في الغالب من المهاجرين العرب أو المسلمين، مثلما حدث حين قام مهاجر مغربي مسلم اسمه (محمد بويري) بقتل المخرج الهولندي العالمي (ثيوفان جوخ)، وتهديد بعضٍ من المهاجرين في هولندا - اتكاءً على أحداث فرنسا الأخيرة - بإشعال الحرب هناك، وكذلك الحادث الإرهابي الذي وقع في محطة ركاب القطارات اللندنية الذي كان أبطاله من المهاجرين المسلمين (بعضٌ ممن تم التعرف على هوياتهم كانوا من المسلمين الباكستانيين) . [email protected]